الأحد، 4 أبريل 2010

منشورات أبو النور السرية ...الحلقة الأولى


منشورات أبي النور السرّية ؛ المنشور الأول



السا دة رواد هذا الموقع الكرام ؛


اليكم بعض المقالات التي وقعت في حوزتي منذ ما يزيد عن عشرة سنوات منسوخة باليد وغفلة من ذكر أي اسم أو توقيع ((للتهرب من الجمرك و رقابة المطبوعات .. ربما )) . وقد وصلت الى يدي بطريقة خيالية , لا مجال لذكرها الآن , و بالتالي ليس من المبالغة أن أطلق عليها اسم المنشورات السرية , و اليكم المنشور الأول

لغة الموتى

مشكلة اللغة أن كلماتها لا تنقسم الى صحيح و خطأ فقط, كما يقول النحاة , بل تنقسم أيضا الى كلمة حية , و كلمة ميتة , و هو انقسام حقيقي , و شامل , و فعّال جدا , لكن علم النحو , لا يستطيع أن يكشفه , لأنه لا يظهر في بناء اللغة , بل يكمن وراء سلوك الناس .

علامة الكلمة الميتة , أنها مطوعة - تاريخيا - لخدمة أغراض السحرة . فقد بدأت مسيرة اللغة المكتوبة , بتعاظم الحاجة الى تبرير نظرية الحكم الفردي , في اقطاعيات الشرق القديم. و تطوع الكهنة لأداء هذه المهمة المستحيلة , قبل أن يعرفوا أنها مستحيلة حقا . فخلال وقت قصير , كان من الواضح , أن مبدأ الحكم الفردي , فكرة غير طبيعية , لا يمكن تبريرها الاّ بمنهج الأسطورة , و كان الكهنة - الذين صار اسمهم (علماء) -مشغولين بتوفير هذه الأسطورة تحريريا , على ألواح من الطين المجفف.

أول لوح , صدر في سومر , عند مطلع الألف الثالثة قبل الميلاد , و حمل تقريرا سياسيا مؤدّاه أن ( الأله شمش الذي يعيش في العالم الآخر , قد نزل ليلا الى هذا العالم , و وهب مفاتيح الأقاليم الأربعة للملك جلجامش ). و من قاموس هذه القصة الليلية , ولدت لغة الأسطورة رسميا .

فكلمة (العالم الآخر) التي نحتها الكهنة من لغة الناس , لم تكن كلمة , بل كانت (( عالما آخر مجهولا بأكمله)) , له ثلاث صفات جديدة , مجهزة عمدا على مقاس السحرة :

الصفة الأولى ؛ أنه عالم غائب عن عيون الناس , لا يعرف أسراره أحد, سوى الكاهن الذي يتكهن بأسرار الغيب . و هي مغالطة شفوية بحتة , لكنها ضمنت للكهنة , أن يحتكروا تفسير الشرائع حتى الآن .


الصفة الثانية ؛ أنه عالم حيّ, لكن بوابته الوحيدة, تقع وراء الموت , مما يعني عمليا , أن مستقبل الناس الأحياء , يبدأ - فقط - بعد أن يموتوا .

الصفة الثالثة ؛ أنه عالم خارج عن سنن الطبيعة , تنطق فيه الأصنام , و ترتاده التنانين المجنحة , لكنه هو العالم الحقيقي , لأنه أزلي و خالد . و هي صياغة تريد أن تقول - فقط - أن عالم الناس الأحياء , ليس عالما حقيقيا .

خلال قرن واحد من عمر سومر , كان الكهنة قد ضمنوا لأنفسهم المقام الثاني في أول دولة أقطاعية عرفها التاريخ , و كان أهل سومر , قد خرجوا من الحياة الدنيا دون أن يدروا , وذهبوا للحياة , في عالم آخر , و جديد , و غائب , و خرافي , و غير معقول الى ما لا نهاية .

هذا العالم الآخر , لم يكتشفه الكهنة في السماء , بل ابتدعوه - شفويا - في لغة الناس على الأرض . انهم لم يخلقوا عالما غائبا , بل خلقوا لغة غائبة , مسخرة للحديث عن عالم أسطوري , لا يعرفه أحد من الأحياء على الأقل . و في ظل هذه الخدعة الشفوية , كان بوسع الكاهن , أن يقلب لغة الناس رأسا على عقب :

انه يذبح طفلا حيا , على قدمي صنم ميت . لكن الناس لا يسمونه ( رجلا مجنونا ) بل يسمونه ( حكيما عالما بأسرار الغيب ) , فهو لا يذبح الطفل حقا , بل يرسله الى الحياة الخالدة في عالم آخر . و ذبح الطفل ليس جريمة دنيئة , بل شعائر دينية في قاموس العالم الآخر. ان كل مايفعله الكاهن المميت , يمكن تبريره للناس الأحياء , بلغتهم الحية , ما دامت اللغة نفسها , لا تخاطب عالم الأحياء أصلا .

لهذا السبب ...

و ردا على هذه الخدعة الشفوية بالذات , ولدت لغة الدين . و قد تميز ميلادها , بظهور كتاب مقدس ( لم يكتبه الكهنة) , له لغة مقدسة ( غير لغة الكهنة ) , لا ينكر ألوهية الصنم فحسب , بل ينكر عالمه الغائب من أساسه . و في نصّ هذا الكتاب المقدس , تكلم الأله الحيّ و سكت الصنم الميت , و بات العالم قابلا للتفسير بلسان الأحياء فقط .

فكلمة ( عالم الغيب ) في لغة الأنسان الحيّ تعني - حرفيا - عالم المستقبل , لأن المستقبل, هو العالم الوحيد الغائب الذي يعرفه الناس الأحياء , و يتوقنون بوجوده , دون أن يروه , و يعلمون أنه آت , و يتحملون مسؤوليته شرعا . و قد التزم الدين بهذا التفسير الحي , و رفض كل تفسير سواه , و جعله شريعة الهية , و سماه ( مقدسا ) لكي يميزه عن تفسير السحرة , و نجح بذلك في استعادة اللغة الغائبة في السماء , الى واقع الناس على الأرض .ان العالم الذي قلبه الكهنة , يستعيد توازنه فجأة , في ثلاثة مواقع رئيسية :

في الموقع الأول ؛ لم يعد علم الغيب , غائبا عن عيون الناس , بل صار اسمه المستقبل , و صار بوسع الناس أن يعرفوا مستقبلهم سلفا , بقليل من المنطق و علم الحساب .

في الموقع الثاني ؛ لم يعد عالم الغيب خارجا عن سنن الطبيعة , بل صار طبيعيا , و صار قابلا للتفسير العلمي , حتى اذا نطقت فيه الأصنام , و أرتادته التنانين المجنحة . فمستقبل الأنسان عالم مدهش - مثل عالم السحرة الغائب - لكنه لا يحتاج الى لغة الأساطير .

هذا التفسير الديني لكلمة ( عالم الغيب ) , رفضه الكهنة في جميع العصور , بحجة أنه تفسير ألحادي , قائم على أنكار البعث بعد الموت . و هي تهمة مقلوبة مثل كل شيء في لغة السحرة , لأن الدين لا يؤكد فكرة البعث فحسب , بل يفسرها باللغة الوحيدة التي يفهمها الأحياء :

فالناس لا يرون الميت حيا في السماء , بل يرونه حيا في أعماله على الأرض . انهم لا يحتاجون الى دليل على صحة البعث؛ لأن واقعهم نفسه هو الدليل . و قد التزم الدين بما تراه عيون الناس , فأعلن أن البعث رهن بلأعمال وحدها , و أن (( من يعمل مثقال خير يره و من يعمل مثقال ذرة شر يره )) هنا في واقع الناس على الأرض , و في مستقبلهم معا . و هو تفسير لا يقول أن الأنسان يفنى بعد الموت , بل يقول أنه لا يستطيع أن يفنى - حتى اذا أراد - أنه يعيش مع أعماله في لوح محفوظ .

ان الدين لا ينكر حق الحي في الحياة الخالدة , لكنه لا يتحدث عن الموتى , و لا يكلم الناس الحاضرين , عن عالم غير حاضر , بل يخاطب الأحياء , بلغة الأحياء , و يقول انهم مسؤولون شرعا عن الحاضر و المستقبل , لأنهم مسؤولون حقا , و عمليا , و بالفعل , و بالمنطق , و بالعدل , وبالحساب .

في كالديا - جارة سومر - افتتح النبي ابراهيم مسيرة الدين , بدعوة معلنة الى تحطيم الأصنام , و تحريم القربان البشري . و بدأت بذلك معركة هائلة بين شريعتين , تتقاتلان بالسيوف في لغة واحدة .

شريعة تعني فيها كلمة (( الرب )) صنما ميتا , و شريعة تعني فيه الكلمة نفسها الها حيا . احداهما تقول ان عالم الغيب غائب عن عيون الناس , لا تراه سوى عين الكاهن . و الأخرى تقول ان عالم الغيب , اسمه المستقبل , و ان الناس يرون مستقبلهم جيدا , لأنه يولد في حاضرهم , و يكون من صنع أيديهم . ان الفرق الهائل بين هاتين الشريعتين , لا يظهر في بناء اللغة , بل يظهر في بناء المواطن .

فشريعة السحرة , تتكلم بلسان الصنم الغائب , و تخاطب مواطنا مغيبا عن حاضره, علامة غيابه , انه ينكر ما تراه عيناه , و ينكر ما يقوله عقله , حتى يسجد خاشعا في حضرة صنم .

و شريعة الدين , تتكلم بلسان الأله الحيّ , و تخاطب مواطنا حاضرا في عالم الآحياء , علامة حضوره , انه مسؤول شخصيا عن واقعه و مستقبله , لأنه لا يعول على ما يقوله الساحر .

بين هذين المواطنين ثمة فجوة واسعة , بقدر الفجوة بين رجل حيّ و جثة رجل . وهي فجوة منظورة , و ظاهرة للعيان في وضح النهار , تعيش مثل الناس الأحياء أنفسهم , و تتنفس في مجتمعهم , و قوانينهم , و نظم حكمهم , كما تحل الروح في الجسد . و في ضوء هذا المقياس العلني , يكون التمييز سهلا - و علنيا - بين ما يدعى باسم الصحوة الدينية و بين صحوة الدين نفسه .

أن الدعوة التي ترتفع حاليا , تحت شعار (( الصحوة الأسلامية )) , دعوة لا تتكلم لغة الأسلام , لأنها لا تنادي بمسؤولية الأحياء عن حاضرهم و مستقبلهم , بل تنادي بمسؤولية الأئمة و المشايخ و رجال الدين . و هي علامة معروفة في لغة الصنم يستحيل تمريرها بوسائل الفصاحة , لأنها تنطق علنا في سلوك الناس .

ففي ظل هذه الصحوة الأسلامية , يولد الآن مجتمع أسلامي مغيّب , علامة غيابه أنه ينكر ما تراه عيناه , و ينكر ما يقوله عقله , و يفعل ذلك علنا , و رسميا , و باسم الأسلام نفسه , لأنه يملك اسلاما شفويا قادرا على تبرير الخطيئة بالكلام .

في هذا المجتمع الغائب , يحكم الصنم - و عائلته - باسم الشرع , و يقاد المسلمون بالعصي و الكلاب المدربة , كما تقاد الخرفان . لكن الشريعة الشفوية , لا تسمي القطيع قطيعا , بل تسميه (( رعية )) في استعراض واضح لما تستطيع اللغة أن تفعله على يد رجل بليغ .

في هذا المجتمع الغائب , تقضي المرأة المسلمة عقوبة السجن المؤبد , في زنزانة متنقلة , اسمها (( الحجاب)) . و تداهمها أمراض السجناء علنا , من العمى المبكر , الى التخلف العقلي , لكن الشريعة الشفوية , لا تسميها (( امرأة سجينة )) بل تسميها (( سيدة مصون )) , بحذف التاء من رأس النون , زيادة في طلب الفصاحة .

في هذا المجتمع الغائب , يولد الطفل البريء , تحت اسم ( عفريت) . و يتولى معلمه حبسه في القمقم , بضربه و ركله , و قرصه , و لعنه , لكن الشريعة الشفوية , لا تسمي التعذيب تعذيبا , بل تسميه (( تهذيبا)) لأن الجناس و الطباق أفضل من الصدق .

في هذا المجتمع الغائب , يعادي رجال الدين الوقورون جسد الأنسان , و يسمون وجه المرأة (( عورة )) , و هي اهانة لا يستحقها وجه الذئب نفسه , لكن الشريعة الشفوية لا تفرق بين الجوه .

في هذا المجتمع الغائب , يزدهر السحر في ثياب الحكمة , و يتولى الوعّاظ الأميون ارشاد الناس في شؤون الدنيا و الأخرة معا , من دون معرفة أو تأهيل . لكن الشريعة الشفوية , لا تسمي الواعظ الأمي ساحرا , بل تسميه (( رجل الله العارف بالأسرار الخفية )), في فتوى لا بد منها لتغطية رأس الجهل بطاقية الأخفاء .

في هذا المجتمع الغائب ,تسود قيم اخلاقية اسمها (( حميدة )), و كل الناس يحمدون ربهم , تحت ادارة تقر حكم الفرد , و تقر منطق القوة , و تعترف بشرعية القتل , و تكذب علنا في جميع وسائل اعلامها الرسمية , و في مناخ أجتماعي من هذا النوع , تكون القيم الحميدة فعلا - و المفيدة فعلا - هي الكذب و الغش و الخداع والنفاق و القسوة والأغواء , و القدرة على التعايش مع الظلم الى ما لا نهاية , لكن الشريعة الشفوية , لا ترى حجم الفرق بين مواطن يشرب من النهر , و مواطن يركض وراء السراب

ان هذه (( الصحوة الأسلامية )) التي تريد أن يستيقظ الأسلام , و ينام المسلمون , دعوة ينقصها صوت الأله الحيَ, و ليس بوسعها أن تعوض هذا النقص , بالفصاحة أو بالشطارة , و ادعاء الغيرة على الدين , و ليس بوسعها أن تجنّب المسلمين الخلود في النار , الاّ اذا اكتشفت الفجوة القائمة بين لغة الأسلام و بين لغة الكهنة , و عادت من عالمها الغائب في أقوال الأئمة و المشايخ , و ضمنت مسؤولية المواطن الحيّ عن الحاضر و المستقبل , في نظام اداري قادر على توفير الضمان .

من دون هذه الشروط , ينقطع الجسر القائم بين المسلمين و بين الأسلام , و يدير كلاهما ظهره للآخر في السرّ و العلن , على غرار ما يحدث الآن , باسم (( الصحوة الأسلامية )) فالدين لا يخاطب المواطن الحيّ , الاّ اذا خاطب واقعه المعاش , و تكلم بلسانه , و أعاد اليه صوته في شؤون الأدارة و الحكم . و هو شرط لا يوفي به اسلام يقوم على سلطة الموتى , بل اسلام يقوم على سلطة الأحياء .


مع خالص المودة و الأحترام .






أنه يعيش مع أعماله في لوح محفوظ .


السيد الفاضل ؛ شيزوفرينيا , السيد الفاضل جلجامش؛ السادة رواد هذا الموقع الأكارم :

تحية طيبة .. , و بعد .

اليكم نص المنشور الثاني , و هو يقول :

... أحدى الثغرات الواسعة جدا في تعاليم الفقه الأسلامي , تتمثل في أصرار الفقهاء على أن قواعد الأسلام خمس , ليس بينها قاعدة واحدة لها علاقة بشؤون الحكم .

فاذا شهد المواطن لأن لا اله الاّ الله , و صلّى و صام , و أخرج الزكاة , و ذهب الى الحج , يصبح مواطنا مسلما , مستوفيا لجميع شروط الفقهاء , بغض النظر , عّما يحدث له , و بغض النظر عمّا سيحدث لعياله .

نظرية القواعد الخمس , لا تستند الى نص القرآن , بل تستند الى حديث رواه صحابي يدعى أبو هريرة . و قد أتيح لها سبيل التطبيق العملي طوال أربعة عشر قرنا حتى الآن , قضاها بلايين المسلمين , يصلون , و يصومون , ويزكون , و يحجون , محاذرين أن تنهدم قاعدة واحدة من قواعد الأسلام . لكن حصيلة هذه التجربة التاريخية الطويلة لا تقول تاريخيا سوى أن الأسلام نفسه قد أنهدم منذ عصر بني أمية , و أن المواطن المسلم عاش مسلما - كما عاش المواطن الفرعوني فرعونيا - في ظل أسرة أقطاعية مسلحة , تبدد ثروته على أمراء العسكر , و تحرمه من الضمان الأجتماعي , و تقطع يده اذا سرق , و تقطع رأسه اذا تكلم .

و لعل المنهج الحكومي المتبع حاليا في كتابة التاريخ الأسلامي سوف يظل قادرا على أخفاء حجم الكارثة عن أعين المسلمين أربعة عشر قرنا آخر .

و لعل معلم حصة الدين لن يتعب أبدا من تلقين ( قواعد الأسلام الخمس ) لصغار الأطفال , آملا أن يصنع مسلمين من نصف الأسلام .

و لعل وسائل القمع السياسي سوف تظل قادرة على تهيئة المناخ المطلوب لنمو مواطن مسلوب الأرادة , مثل المواطن الذي تخاطبه نظرية القواعد الخمس .

كل الأحتمالات الصعبة واردة ما عدا احتمالا واحدا فقط لا غير ؛ ذلك أن تنجح هذه النظرية الفقهية المصطنعة في تطبيق الأسلام .

فهذه نظرية ولدت أصلا في غياب الأسلام , و قد ولدت بالقوة , رغم أنف الفقهاء و المسلمين معا , بعد أن نجح بنو أميّة في استعادة نظام الأقطاع , و استبدلوا جيوش الجهاد بجيش مأجور محترف , يقوده قتلة محترفون , من طراز مسلم بن عقبة و زياد بن أبيه و الحجاج بن يوسف , فقد بلغ من ولاء هذا الجيش لذهب بني أميّة أنه قصف الكعبة بالمنجنيق , و هدم بيوت مكّة على رؤوس سكانها , و صلب فيها حفيد أبي بكر الصديق , و انتقم من سكان المدينة أنصار الرسول , وقتل حفيد رسول الله نفسه في كربلاء.

و أمام هذا السيف القاطع , كان على الفقه الأسلامي أن يختار بين طريقين . أحداهما أن يموت الفقهاء , و الأخرى أن يموت الأسلام . و رغم أن كثيرا من الفقهاء العظام قد اختار سبيل الشهادة , فان أغلبهم , كان مضطرّا الى العودة الى عياله في آخر النهار . و قد أنجلت هذه المعركة خلال وقت قصير نسبيا , و عاد الخليفة - الذي كان (( قد هدم الكعبة و أحرق أستارها )) - فجأة لأداء فريضة الحج على رأس وفد من الفقهاء .
في ظل هذه الظروف الطارئة , كان على الفقه الأسلامي أن يكتشف صيغة جديدة للأسلام تتوفر لها ثلاثة شروط خاصة , كل منها يناقض نصا صريحا من القرآن .

الشرط الأول : أن تكون صيغة مطوعة للتعايش مع حكم الفرد , و القرآن يسمي الحاكم الفرد {فرعون انه طغى } ويعتبره { عدو الله } شخصيا , و يدعو الى القتال ضده تحت راية الجهاد المقدس في سبيل الله .

الشرط الثاني : أن تكون صيغة لا تعترف بمسؤولية الناس عن شؤون الحكم , و القرآن يرفض هذه الصيغة جملة و تفصيلا , و يعتبر الناس وحدهم هم المسؤولون عن شؤون الحكم , و يقول لهم كل يوم : { و ما أصابكم من مصيبة , فبما كسبت أيديكم } ( سورة الشورى 30 )

الشرط الثالث : أن تكون صيغة قادرة على ارضاء ضمير الفرد بغض النظر عما يحدث للجماعة . و القرآن يستنكر هذا الحل الكهنوتي و يعتبره تكذيبا سافرا بالدين نفسه , في نصوص صريحة .

خلال البحث المستمر عن هذه الصيغة المستحيلة , تشكلت نظرية القواعد الخمس تلقائيا , و من دون أن يكتبها أحد . فلم يكن ثمة قواعد أخرى على أي حال . و لم يكن من شأن الحكم الأموي أن يترك للأسلام قاعدة واحدة لها علاقة بشؤون الحكم الأموي . لكن الفقهاء اختاروا أن يكرسوا هذا الواقع دينيا , باعتبار أن أداء القواعد الخمس هو نفسه كل الأسلام . و قبل أن ينقضي قرن واحد على نشأة علم الفقه , كان هذا العلم دعوة اعلامية سافرة للتعايش مع الأقطاع و كان الأسلام قد خسر نصف قواعده , بشهادة مصدق عليها من فقها الأسلام .


اختفت قاعدة العدل , فتحول (( بيت مال المسلمين )) من ميزانية عامة الى ثروة عائلية خاصة و يبددها بني أمية على شراء المغنيات . و هو انقلاب لا يعني في الواقع سوى أن الأقطاع قد انتصر على الناس مرة أخرى , و أنه انتصر عليهم - هذه المرة - باسم الأسلام
اختفت قاعدة المساواة , و خسر كل مسلم على حدة , لكن أكثر المسلمين خسارة , كانوا - بالطبع - هم أقل المسلمين حيلة و قوة . فقد خسر الطفل المسلم حقه في التعليم المجاني , و خسرت المرأة المسلمة حقها في الهواء و الشمس .

اختفت قاعدة الجهاد { في سبيل الله , و المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان } ( سورة النساء 75 ) , فأصبح المجاهد المسلم جنديا مأجورا للعمل في خدمة الأقطاع , و بات عليه - منذ ذلك الوقت - أن يقاتل ضد المستضعفين بالذات .

كل قاعدة سنها الأسلام لضمان حق المواطن المسلم في حياة كريمة , اختفت - رسميا - من قائمة قواعد الأسلام . و لم يبق في الساحة سوى قاعدة أداء الشعائر التي اجهد الفقهاء أنفسهم في دعمها بنصوص القرآن , آملين أن يخمدوا ثورة عالمية واسعة النطاق بتعويذة يقرأها فقيه , و هو أمل , كان من شأنه أن أضطر الفقهاء المسلمون الى الحياة دائما على حافة بركان .

فالقرآن الذي يريد الفقهاء أن يحتووه , لا يقول أن قواعد الأسلام خمس , و لا يفرق بين شعائر الأديان , و لا يضمن الجنة لأحد , و لا يعترف أصلا بمثل هذا المنهج الكهنوتي .

ان الكنيسة هي التي تقول { لا صلاح خارج الكنيسة } . أما القرآن فقد جاء لهدم هذا المبدأ بالذات , و تحرير مصائر الناس من قبضة الكنيسة , و فتح باب الخلاص أمام كل من يسعى الى الخلاص . بغض النظر عن لونه , و جنسه , و شعائره الدينية . و من البديهي أن القرآن لا يعمل لتحقيق هذه الثورة بتأسيس كنيسة اضافية , لها شعائر اضافية , بل بانهاء الوصاية على الدين , و مواجهة الناس بمسؤولياتهم الشخصية عما يحدث لهم , و عما يحدث لعيالهم في هذه الحياة الدنيا ,

ان القرآن لا يطالب الناس بأداء الشعائر ثمنا للجنة بعد الموت , بل يطالبهم أولا بأن يكسبوا للأنفسهم جنة هنا على الأرض . و منهجه الصريح في هذه الدعوة أن الناس مسؤولون شرعا عن شؤون الدنيا . و أن مسؤوليتهم لها قواع شرعية محددة . منها أن يكون لهم صوت مسموع في أجهزة الأدارة و الحكم , لكي يضمنوا لأنفسهم تحقيق العدل الدائم بالأشراف الدائم على صياغة القوانين .

هذه القواعد الأدارية جزء أساسي جدا من بناء الأسلام . لا يقوم الأسلام من دونها , و لم يقل القرآن انه يقوم . لكن الفقه الأسلامي لم يشأ أن يدرجها في خانة القواعد الخمس لأنه - أولا - لم يكن فقها, بل كان سياسة , ولأنه - ثانيا - كان سياسة موجهة عمدا ضد حق الناس في بقية الأسلام

........ للمنشور بقية ....

مع خالص المودّة و الأحترام

أخوكم في البؤس و التخلف و الشقاء : أدم الطاهر أبو النور




السادة رواد هذا المنتدى ، تحية طيبة وبعد : اليكم تكملة المنشور الذى ارجو ان ينال اهتمامكم :


... يقول باقى المنشور : لقد جرى تبنى القواعد الخمسة بعناية فائقة ، وحرص بالغ ، لكى يتوفر لها شرطان غريبان حقاَ عن روح الدين : الاول : ان لا يتعارض اداؤها مع سياسة الدولة ، مهما كانت هذه السياسة . والثانى: ان تكون قادرة على ارضاء ضمير المسلم ، بغض النظر عما يحدث للمسلمين . ورغم ان الفقهاء لم يعثروا على القواعد الخمسة فى نص قرآنى محدد ، فأنهم وجدوا لانفسهم حديثاً رواه ابوهريرة عن رسول الله ، قال : كان رسول الله يوماً بارزاً للناس .فأتاه رجل فقال : ( ما الاسلام ، يا رسول الله ؟ ) : . قال : ( الاسلام ان تعبد الله ، ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدى الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان ) . وبموجب هذا الحديث ، اباح الفقهاء الامويون لانفسهم ان يفصلوا الاسلام عن شؤون الحكم ، ويجعلوا اداء الشعائر الاسلامية بديلاً شرعياً عن بقية الاسلام ، متعمدين ان لا يتذكروا ان رسول الله كان يتحدث من واقع اسلامى مختلف ، تم تحريره من سيطرة الاقطاع بقوة السلاح ، و ان اعتماد هذا الحديث فى نظام اقطاعى من طراز النظام الاموى فكرة لا يقبلها الرسول بالذات ، ولا يجوز شرعاً ان تنسب اليه . ان الفقهاء الامويين ، وهم معلمو ائمة المذاهب الاسلامية ، يكتشفون اسلاماً مطوعاً عمداً للتعايش مع الحكم الاموى. علامة هذا الاسلام الجديد ان قواعده الخمس مجهزة خاصة ، على مقياس مواطن مسلوب الارادة ، خسر جميع حقوقه السياسية ، من حقه فى الضمان الاجتماعى الى حقه فى اعلان المعارضة ، وبات عليه ان يكسب قوت عياله فى مجتمع اقطاعى شديد القسوة ، موجه برمته لخدمة مصالح الاقطاع . وفى سبيل رزق العيال ، كان على المواطن المسلم أن يشغل جميع الخانات الشاغرة للعمل المتاح في مثل هذا المجتمع , من خانة السياف في قصر الخليفة الى خانة الجارية المغنية في حريمه . ان مواصفات هذا المسلم الجديد , تتحول على يد الفقه الى خمس قواعد جديدة للأسلام : القاعدة الأولى : أن يشهد المواطن بأن الله وحده صاحب الملك , من دون أن يلاحظ أن الملك نفسه قد سرقه بنو أميّة . القاعدة الثانية : أن يؤدّي المسلم صلواته , لكي تنهاه الصلاة عن الفحشاء و المنكر في دولة تشجع بيع الرقيق , و تبذر مال الفقراء على شراء المرتزقة . القاعدة الثالثة : أن يخرج المواطن زكاة من ماله للفقراء , و ينسى أن الفقر نفسه سببه الأدارة الأقطاعية الفاشلة في نظام بني أميّة . القاعدة الرابعة : أن يصوم المواطن شهر رمضان لكي يعلو بنفسه فوق الشهوات حتى اذا كان حكم بني أميّة قد حرمه من كل شهوة أصلا . القاعدة الخامسة : أن يذهب المواطن الى الحج لكي يؤدّي المناسك على سنة رسول الله , من دون أن يتذكّر أن الرسول كان قد جاء للحج بعد أن حرر مكة من نفوذ الكهنة و الأسر الحاكمة معا, و منها - بالذات - أسرة بني أميّة . ان هذا المسلم الجديد الذي صنعه فقهاء بني أميّة على هواهم قد صار عمره الآن أربعة عشر قرنا من دون أن يبلغ سن الرشد . فهو لا يزال مواطنا معفيا من مسؤليته عن حياته , و معفيا من مسؤوليته عن شؤون الدولة التي تقرر مصيره , و مصير عياله , و لا يزال الأعفاء ساري المفعول شرعا بضمان من نظرية الأركان الخمسة . و اذا كانت هذه الحقيقة قابلة للمحو من تاريخ المسلمين المكتوب , فان واقع المسلمين يذكرهم يوميا بجميع التفاصيل . أن بعض الأسلام لا يعوض الناس عن الأسلام كله . و الخطأ المميت الذي وقعت فيه نظرية القواعد الخمس انها نجحت في التعويض عن الكل بالجزء , و نجحت في اقناع المواطن المسلم بقبول هذه الخسارة , و نجحت في تمرير الخسارة نفسها , باعتبارها فوزا أبديا في حياة أخرى . لكن مشكلة هذا النجاح المستمر أنه نجاح في زيادة الخسائر , و أن خمس قواعد فقط لا تستطيع أن تغطي حاجة الناس الى بقية القواعد . فالأمر بالمعروف قاعدة , و هي قاعدة واجبة الأداء على كل مسلم و مسلمة , و ليس ثمة ما يبرر استبعادها من بين القواعد الخمس سوى أنها قاعدة جماعية , موجهة ضد حكم الفرد بالذات . فالمسلم لا يستطيع أن يأمر بالمعروف الا اذا كان صاحب سلطة فعلية . و السلطة الفعلية لا يملكها المسلم , من دون أن يخسرها بنو أميّة . و النهي عن المنكر قاعدة , لكنها بدورها قاعدة جماعية , يتطلب أداؤها أن تكون الجماعة قادرة - قانونيا - على عقاب أهل المنكر . و هي فكرة من شأنها أن تجرد بني أميّة من قصورهم , و حراسهم , و تجرهم الى الجلد العلني في الساحات العامة . و تحريم الربا قاعدة , لكنها بدورها قاعدة مستحيلة التطبيق في مجتمع أقطاعي . فالمسلم لا يستطيع أن يقيد رأس المال , ألاّ اذا كان شريكا في رأس المال نفسه , مما يتطلب - أولا - الغاء فكرة الأقطاع من أساسها . و يتطلب ثانيا , أن يصبح المواطن شريكا شرعيا في أداة الحكم . و مسؤولية المسلم عما كسبت يداه قاعدة , لكنها قاعدة لا تنطبق جدا على مسلم مكتوف اليدين . و لا يعني ادراجها ضمن القواعد الخمس سوى تذكير هذا المواطن الأسير بأنه يدفع ظلما ثمن ما كسبته أيدي بني أميّة . و حفظ حقوق المرأة قاعدة , لكنها قاعدة تتطلب - أولا - أن يكون للمرأة حقوق , و هي مشكلة يصعب حسمها في مجتمع يحكمه اقطاعي مسلم لا يعترف بحق رجل أو امرأة . و الدفاع عن المستضعفين قاعدة , لكنها قاعدة تحتم القتال ضد الذين استضعفوهم مما يضع رقاب بني أمية حيث تلتقي جميع السيوف . و المجادلة بالحسنى قاعدة , لكنها قاعدة يصعب على الأمويين قبولها لأنهم لا يستطيعون أن يجادلوا بالحسنى دون أن يخسروا نتيجة الجدال . و حفظ حق الطفل قاعدة , لكنها قاعدة تحتاج الى رصد نفقات التعليم المجاني ضمن بنود الميزانية العامة . و هي مشكلة صعبة أخرى يستحيل حسمها في مجتمع لا يملك ميزانية عامة. و العمل بكتاب الله قاعدة , لكنها قاعدة تعني أن تذهب بقية الكتب الأخرى , و يخسر الفقهاء أحاديث أبي هريرة , و يخسرون معها (( السند العلمي )) لنظرية القواعد الخمس , و يجد الخليفة الأموي نفسه وجها لوجه أمام كتاب عالي الصوت , يدعوه علنا باسم : فرعون . جميع هذه القواعد سقطت - عمدا - من قائمة قواعد الأسلام , و لم يكن سقوطها مجرد تحريف نظري للدين , بل كان سقوطا حقيقيا للمواطن المسلم نفسه الذي اضطر الى العيش في وطن لا يعترف له بحق المواطنة , و لا يستطيع أن يضمن له رزق عياله , و لا يكفل له حق المعارضة , و لا يريده أن يعارض أصلا , مهما لذعته النار , و ارتفعت من حوله صرخات الألم . و اذا لم يكن هذا الوطن القاسي هو الجنة التي وعد بها الله عباده المتقين , فلا بد أن الوقت قد حان لكي يراجع المتقون ما قاله الله عن جهنم . أن الأسلام لا يقوم على خمس قواعد , بل يقوم على مسؤولية الناس تجاه أنفسهم . و مهما تكلم الفقهاء أو سكتوا , فأنهم لا يستطيعون أن يعفوا الناس من هذه المسؤولية لأن الناس هم الذين سيدفعون قائمة الحساب نقدا في نهاية المطاف . و هم الذين سيخسرون جنّة الحياة الدنيا , حتى يضيع حقهم في الثوب و الحذاء , و يضطرون الى الركض تحت أشعة الشمس حفاة , عراة , شاخصة أبصارهم وراء لقمة العيش , في دولة لا تلتزم تجاههم بشيء سوى حبسهم و جلدهم من باب حرص الدولة على أقامة حدود الله . و في ظروف صعبة من هذا النوع , لا يصبح أداء الشعائر الأسلامية شكرا لله على نعمة الأسلام , بل يصبح ألتزاما باظهار الشكر , حتى من دون نعمة . و هي فكرة لا يتولاها الله , بل يتولاّها رجل أقطاعي . أن مواطننا يجب أن يعرف : يعرف أن قواعد الأسلام الخمس فكرة جاءت لحرمانه شخصيا من بقية الأسلام . يعرف أن أداء الشعائر هو - فقط - نصف القاعدة . و أن النصف الباقي , أن يكون أداء الشعائر , شكرا لله على نعمة الحياة , هنا , فوق الأرض , و ليس طقوسا للبحث عن النعمة في أرض الله الأخرى . يعرف أن كلمة (مسلم ) ليست لقبا بل حرفة . و أن المواطن المسلم حرفته راع مسؤول عن رعيته , وليس بوسعه أن يتخلى عن هذه المسؤولية , دون أن يصبح مسلما عاطلا عن العمل . يعرف أن الأسلام عقيدة على حرية العقيدة , لا تنكر حق أحد في الجنة بعد الموت ,بل تثبت حق جميع الناس في جنة اضافية على الأرض. يعرف أن الفقه الأسلامي قد أعفاه من مسؤوليته عن شؤون الحكم طوال أربعة عشر قرنا حتى الآن , و أن هذا الصك الموقع على بياض , لا يعتمده في الواقع سوى أبي هريرة . يعرف أن قواعد الأسلام ليست خمسا , بل أكثر من ذلك بكثير , و أن الأمر بالمعروف قاعدة , و النهي عن المنكر قاعدة و الدفاع عن المستضعفين قاعدة , و أن جميع هذه القواعد لا يستطيع المسلم ان يحافظ عليها الا اذا كان شريكا شرعيا في أداة الحكم . يعرف أن نصف الطريق الى الله لا يغني عن الطريق كله . يعرف أن عمامة الفقيه مجرد نوع من الأعلان , و أن المسلم لا يملك قبعة بل يملك حقوقا في نصوص الدستور . فاذا ضاعت هذه الحقوق فلا شيء يفرق بين رأس و رأس . يعرف أن المرأة المحجبة ليست هي المرأة المسلمة , بل هي المرأة التي فقدت جميع حقوقها , بما في ذلك حقها في الرياضة و الهواء الطلق . يعرف أن رجل الدين ليس مثل رجل النحو , لأنه لا يصحح كلام الناس بل يلغي حقهم في الكلام . يعرف أن أتباع سنة الرسول محمد يتطلب أولا أن يعيش المسلم في مجتمع محرر من الأقطاع مثل مجتمع الرسول محمد . ان مواطننا لا بد أن يعرف . و اذا شاءت الظروف أن يهمل المواطن واجب المعرفة , و تنجح ثقافتنا الأسلامية في تجهيله بالأسلام الى الأبد , فأن ذلك سيكون عملا سياسيا ناجحا , من شأنه أن يجند ملايين المسلمين للموت دفاعا عن أي أحد , و أي شيء , ما عدا حق المسلمين في الحياة . و هي فكرة مفيدة , قد ينجم عنها قيام دولة مزدهرة - و أحيانا أمبرطورية - لكنها ستكون دائما تعويضا خاسرا جدا عن حقوق الناس في الجنة . انتهى المنشور ؛ و دمتم في سلام أخوكم في البؤس و التخلف و الشقاء : آدم الطاهر أبو النور

هناك تعليق واحد:

  1. كلمات اقل ما يقال فى حقها انها رائعة
    نحن شعب مريض

    ردحذف