السادة رواد هذا المنتدى الأفاضل ؛
تحية طيبة و بعد
اليكم نص المنشور السري الثالث , و هو يقول :
............ مشكلة { الجهل } , أنه في الواقع نوع من { العلم } , يستند دائما الى نوع من { العقل } , و يقوم أيضا على نوع من { المنطق } . أنه ليس ظاهرة بريئة , تنجم عن نقص في حجم المعلومات , بل ظاهرة مسؤولة , تنطلق من معرفة يقينية , و تتميز بالقدرة على تسخير جميع أنواع الأسلحة , لفرض حلولها بنجاح في معركة لها هدف صاعق واحد , هو أن ينتصر الباطل على الحق بأي وسيلة , و بأي ثمن . لهذا السبب يلزم التمييز الواضح , بين معنى الجهل و معنى الأميّة ,
فالرجل الجاهل ليس رجلا محايدا , تنقصه المعلومات المطلوبة , بسبب عجزه عن القراءة . بل هو في الأساس رجل (( متعلم )) , واسع الأطلاع , منحاز الى (( الحق )) واثق من أقواله , صفته الظاهرة , أنه يملك أجابة نهائية عن كل سؤال , لأن معلوماته مستمدة - في رأيه - من مصدر علوي غير قابل للخطأ .
العلامة الأولى في منهج هذا الرجل , أنه بشرله لسان أله , فهو لا يقول شيئا من عنده , و لا يتكلم بلغة الناس , بل يردد - فقط - ما سمعه من الرب (( العليم )) شخصيا , و في العادة , يكون الرب مجرد بوق أجوف لصوت الرجل الجاهل نفسه , لكنه أحيانا , يكون معلما ذائع الصيت , له لقب يبعث على الرهبة مثل الأستاذ الدكتور , أو حضرة الأمام , أو آية الله بشحمها و لحمها .
في مواجهة رجل رباني من هذا النوع , يفقد المنطق هدفه و معناه , و يدخل الحوار في باب الجريمة , و تمتلك الأفكار سلطة بوليسية , حتى تصبح كل فكرة على حدة , مجرّد شرطي في بذاة الشغل , يجوب الشوارع حاملا عصاه , لحفظ الأمن و العلم معا .
أن ثقافتنا العربية , تعايش هذه الظاهرة الصعبة , من دون أمل في رحمة الله .
سبب المحنة و محتواها , أن كلمة { العلم } في قاموس العرب , لا تؤدي معناها المألوف في بقية القواميس , بل تشمل أيضا { علم التفسير } الذي تكفَل بشرح نصوص القرآن منذ زمن مبكرجدا , و منح نفسه حق احتكار الكلمة الأولى و الأخيرة في موضوعات معقّدة , لا تتجاوز معلومات الفقهاء فحسب , بل تتجاوز وسائل البحث المتاحة لمناهج الفقه بأسره . و خلال قرون طويلة من ممارسة هذا (( العلم )) المفتقر الى منهجية العلم , كان على الثقافة العربية أن تعايش تجربة الجذب المستمر بين مصدرين متناقضين للمعلومات المتناقضة :
الأول : مصدر العلم التجريبي الذي بدأ مسيرته في بلدان غرب أوربا منذ عصر داروين على الأقل , و نجح في استبدال منهج الكنيسة القائم على تفسير الكتاب المقدس , بمنهج تجريبي جديد , لا يعتبر التفسير علما , و لا يقبل نتائج البحث , الاّ اذا ثبتت في ضوء التجربة .
الثاني : مصدر التفسير الحرفي لنصوص القرآن , الذي أنتحل لنفسه صفة العلم الألهي في ثقافة العرب , و بقي بمعزل عن النقد , بفضل قدرته المتزايدة على تسخير سلطة الدولة لقمع النقاد بالقتل والتشريد , , منذ عصر الحلاج حتى الآن .
......... للمنشور بقية .
مع تحيات أخيكم في البؤس و الجهل و التخلف
آدم الطاهر أبو النور
السادة رواد هذا المنتدى ؛ تحية طيبة .. , و بعد
اليكم بقية نص المنشور الثالث , و هو يقول :
بين هذين المصدرين المتناقضين لحقائق العلم الأساسية , يواجه العقل العربي المعاصر محنة الحياة بوجهين في رأس مدهوش واحد . و هي محنة تتجلى علنا في مدارس العرب بالذات التي تحولت الى ساحات مفتوحة لشد الحبل , بين ثقافتين رسميتين , كلتاهما تعيش على حساب الأخرى , أن المبارزة تجري يوميا في كل كتاب مدرسي على حدة .
فمثلا : في درس التفسير , يتعلم الطالب العربي أن الله قد خلق السموات و الأرض في ستة أيام , و أن هذه الصياغة القرآنية نظرية علمية تعني ما تقوله حرفيا . و هو تفسير يفترض , مخطئا, أن القرآن كتاب في علم الفلك , مهمته أن يكشف للتلاميذ أسرار الكون , لكن الشيخ المفسر لا يلاحظ هذا التكلف الظاهر في فهمه للقرآن .
في درس الفلك , يكتشف الطالب فجأة أن الله لم يخلق أرضا ولا سماء , بل فضاء تسبح فيه الكواكب و النجوم , و أن ما يدعى باسم الأرض , كوكب يبدو معلقا في السماء , من أي نقطة خارج الأرض . و هي صورة لا تخرج عن أطار علم التفسير فحسب , بل تخلع عنه عمامةالعلم و جبته معا .
و مثلا في درس التفسير , يقال للطالب العربي أن مبدأ النشؤ و الأرتقاء ليس حقيقة علمية , و أن الله قد صنع آدم و حواء مثل تمثالين من الطين , و نفخ فيهما الروح , ثم وضعهما في الجنة , لكي ينعما بالحياة الخالدة الى الأبد . و هي قصة يرويها القرآن من باب الوعظ , لكن الشيخ المفسر يرويها من باب المعرفة بتفاصيل التاريخ , آملا أن يقوده منهج التفسير الحرفي الى كنز العلم الألهي .
في درس الأحياء , يكتشف الطالب مدهوشا مدى جهل المفسرين بمبدأ النشوء و الأرتقاء , و يعرف من الحفريات أن الله لا يصنع التماثيل , و أن الأنسان ليس مخلوقا منفصلا عن بقية الحيوانات , و لا ينتمي الى أب واحد أو أم واحدة , بل ينتمي الى فصائل متنوعة من القرود التي هجرت موطنها الأصلي في الغابة , و أحترفت الصيد في مناطق السافانا منذ مئة مليون سنة على الأقل . و هي حقائق لا تشكك في قدرة الله , بل تشكك في قدرة الفقه على تفسير كتاب الله .
و مثلا : في درس التفسير , يقرأ الطالب قصة الطوفان , و يعرف من (( علماء )) الدين أن التبي نوحا قد صنع مركبا , جمع فيه زوجين من كل المخلوقات , لكي ينقذ الحياة من الفناء .
و في درس العلوم , يعرف الطالب أن أجناس المخلوقات تزيد في الواقع على خمسين مليون جنس , و أن الأرض لم تغرق في أي طوفان خلال الألف مليون سنة الأخيرة على الأقل , و أن الأنسان لم يتعلم صناعة المراكب , ألا في عصر سومر منذ سبعة آلاف سنة قصيرة .
و مثلا : في درس التفسير , يقال للطالب أن النبي موسى أحال عصاه الى ثعبان في حضرة فرعون , و أنه أرسل على مصر وباء البعوض و القمل و الضفادع , و فلق البحرالأحمر بضربة من عصاه .
و في أوراق البردى , يقرأ الطالب أن فرعون شخصيا , لم يقابل رجلا أسمه موسى , و لم ير عصاه تنقلب ثعبانا , و لم يسجل قصة فلق البحر الأحمر , رغم ولعه بتسجيل القصص .
و مثلا : في درس التفسير , يعرف الطالب أن الملك سليمان , كان يكلم النمل و الطيور , و يسخر ملوك الجن في بناء الهيكل .
و في درس التاريخ , يتعلم الطالب أن الهيكل اليهودي لم يشيده ملوك الجن , بل بناه العمال اللبنانيون الذين استقدمهم سليمان من مدينة جبيل .
في زحام هذه المعلومات المتناقضة , يعايش الطالب العربي , في كل مدرسة عربية على حدة , تجربة مستحيلة , للتوفيق بين منهجين للمعرفة , كلاهما يدعوه الى الشكِ في أقوال الآخر :
الأول منهج أنساني , يلتزم بوسائل العقل , و يستند الى قوانين صارمة , لا تنكر مبدأ المعجزة فحسب , بل تطرحه خارج أطار العلم من أساسه .
الثاني منهج سحري , ينكر حاجة العلم الى العقل , و يقيم نتائجه على قاعدة مؤدّاها أن الرب الخارق لا بد من أن يخرق كل القوانين , و أن وقوع المعجزة هو { الدليل العلمي } على صدق علم التفسير .
بين هذين المنهجين المتناقضين , لا يملك الطالب العربي خيارا آخر سوى أن يدخل طائعا في قلب الدّوامة , و يجرب أن يعيش بشخصيتين في عقل مدهوش واحد . فهو - من ناحية - لا بد من أن يقبل معارف عصره , مثل بقية الطلاب , في بقية المدارس . لكنه - من ناحية أخرى - لا بد من أن يتلقى في درس التفسير معلومات المفسرين العجيبة التي لا يتلقاها الطلاب , و لا تعترف بها المدارس , و لا تقرها مناهج التعليم في أي مكان من العالم , سوى الوطن العربي و حده, فقط , لا غير .
فالمدرسة الحديثة في الشرق و الغرب , لا تعتبر تفسير الكتب المقدسة مادة علمية , و لا تضم دروسا للتفسير أصلا , و لا تسمح بتقديم مادة الدين في المدارس العامة , تحت أسم { العلم } , بل أن دولة مثل الولايات المتحدة , لا تجيز قراءة الأنجيل في مدارس الحكومة , حتى بعد أنتهاء اليوم المدرسي , و هو موقف لا تتخذه شعوب العالم لأنها ملحدة , أو أقل أيمانا من العرب , بل لأن كلمة { العلم } تعني في لغاتها غير ما تعنيه في لغتنا العربية .
فمنذ عصر الثورة البروتستانتية في القرن السادس عشر , كان الأ وربيون قد أكتشفوا أن العلم لا يستطيع أن يكون مقدسا من دون أن يخسر صفة العلم . و كانوا قد نجحوا في فصل المدارس العامة عن الكنيسة , و أعادوا صياغة المنهج التعليمي , طبقا لمبدأ مؤداه , أن معلومات الأنسان , مثل الأنسان نفسه , معلومات ناقصة , و غير نهائية , و غير منزهة عن النقد و المراجعة و التصحيح . و هو مبدأ لا يقره (( علم التفسير )) في ثقافتنا العربية , الذي يسمي نفسه علما ربانيا , لا يتعالى على النقد فحسب , بل يعتبره طعنا شيطانيا في علم الله . بسبب هذا التحريف الرسمي لمعنى كلمة { علم } , ينفرد العرب من بين جميع أمم الأرض بثقافة معصومة عن الخطأ , تسمي رجل الدين (( عالما )) , و تعتبر الرأي الفقهي نظرية علمية , و تورط نفسها في منهج جدلي مستحيل , صفته المستحيلة أنه قائم على تحريم الجدل بالذات . و عندما يبدأ درس التفسير في أي مدرسة عربية , و يجلس الطلبة واجمين في حضرة الشيخ المفسر , تخرج قاعة الفصل بأسرها من هذه الكرة الأرضية , و تغيب في عالم غائب , لا يحكمه منطق أو قانون و لا يعترف بعقل أو دليل , و لا يكشف أسراره لأحد , سوى الشيخ السري شخصيا . أن عالم الله المنطقي يفقد فجأة كل حاجة الى صوت المنطق .
فعلم التفسير لا يصدق أن القرآن { بيان للناس } , بل يعتقد أنه كتاب بالشيفرة , يضم جميع أسرار العلم في التاريخ و الفلك و الجغرافيا و الأحياء , و أن كل ما يحتاجه الشيخ المفسر , لكي يفتح هذا الكنز المجاني , من المعلومات , هو أن يجلس في بيته الدافيء , و يفسر نصوص القرآن . و هي فكرة لا تستند الى القرآن نفسه , و لم يقل بها الله , و لا تعكس منهج العلم القائم على البحث و التجربة , بل تعكس منهج رجل كسول , يريد أن يحصل على أسرار الغيب بالمصادفة السعيدة وحدها التي جعلت لغته العربية , هي - بالذات- لغة العلم الرباني في القرآن . و في عقل شعوبي من هذا الطراز , تختلط نتائج الحسابات , و يغيب صوت المنطق وراء صخب الخرافة , و يتحول الحوار من وسيلة لنقاش الأفكار الى وسيلة لتمريرها من دون نقاش .
إن الأنسان المقلوب على رأسه , يخسر رأسه و رجليه معا .
فالقرأن ليس كتابا لمحو الأمية , و ليست مهمته أن يكشف أسرار العلم للمفسرين. إنه لا يروي قصص التوراه و الأنجيل , لأنه يعتبرها ((حقائق علمية )) , بل لأنه يريد أن يحتويها في صيغة منقحة , قادرة على تحقيق التآخي بينها في مجتمع إنساني موحد . و هي مهمة أوّلها القرآن على خير وجه , و قدم لأجيال البشرية منذ القرن السابع , أول كتاب مقدس , يحتضن جميع الكتب المقدسة , و يتعايش مع جميع الشرائع و الأجناس , في أول مجتمع ديموقراطي قائم على مبدأ الأقتراع الحر , و حق الأغلبية في إتخاذ القرار . و مادامت القبلية العربية قد نجحت في تقويض هذا المجتمع , و إنهاء شريعته الجماعية منذ عصر الأمويين , فان علم التفسير لا يستطيع أن يخدم غرضا آخر سوى أن يكون علما مسخرا لتزوير القرآن بالذات .
و الواقع , أن فرض مادة التفسير على مناهج التعليم في المدارس العامة , فكرة لا تثبت شيئا سوى أن غياب الشرع الجماعي قد سلب المواطنين العرب جميع حقوقهم الشرعية , بما في ذلك حقهم في حماية أولادهم من عمليات غسيل المخ التي تجري في المدارس العامة باسم التعليم .
فالمدرسة التي تبنيها الحكومة بنقود دافعي الضرائب , ليست مؤسسة حكومية , و لا يجوز أن تتحول الى أداة تسخرها الدولة لشراء مرضاة رجال الدين , بفرض تفسيراتهم على مناهج الدراسة , تحت شعار العلم بالذات . لأن هذه الحيلة السياسية السهلة , لا تستطيع أن تخدم العلم أو الدين أو السياسة , و ليس من شأنها أن تحقق غرضا عمليا آخر سوى أن تنقل خلافات المذاهب الطائفية الى المدارس , و تخرب الخلية الأولى لثقافة عربية موحدة , و تنشر عدوى الجهل المتراكم في كتب التفسير , مثل وباء وراثي , من جيل الى جيل . وهي كارثة قد لا يكتشف حكام الوطن العربي أبعادها , حتى يأتيهم بها الله غاضبا إلى باب الدار .
إن اللعب بالنار , لا يجعل النار لعبة .
و الخطأ الذي إرتكبته الحكزمات العربية منذ عصر محمد علي باشا , أنها تعمّدت أن تسخر القرآن لخدمة أغراضها الأعلامية , في لعبة خطرة - و شائنة - ما لبثت أن أعطت المفسرين صوتا لا يملكونه , في شؤون الأدارة و الحكم , و منحتهم حق التدخل في صياغة القوانين و مناهج التعليم معا , و بسطت ظلهم على أجيال العرب , في تيار أصولي عارمة , تواجهه الحكومات العربية الحالية بندم الفأر الذي استأجر لنفسه مصيدة . فالباشا العربي لم يحقق مكسبا من وراء حلفه مع رجال الدين , سوى أنه أصبح سيافا في خدمتهم , يقطع لهم أيدي المواطنين و رقابهم , و ينهب لهم من بنود الميزانية العامة , ما يكفي لتأمين رواتبهم في عشرات الوظائف المبتكرة , من تلاوة القرآن في برامج الأذاعة و التلفزيون , إلى إصدار الصخف و المجلات , و تأسيس جمعيات الدعوة الأسلامية . و هي نفقات لا يقرها دستور واحد في العالم , سوى دستور الباشوات الورعين في الوطن العربي .
إن القرآن ليس وسيلة لكسب العيش , و لا يطوع نفسه لخدمة الأقطاع , و لا يدّخر وسعا في تحذير المفسرين من تسخيره لهذا الغرض بالذات , في آيات صريحة , منها :
في سورة البقرة 174 { و يشترون به ثمنا قليلا , أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار }
و في سور البقرة 79 { ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا , فويل لهم مما كتبت أيديهم , و ويل لهم مما يكسبون }
و في سورة آل عمران 78 { و إن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب , لتحسبوه من الكتاب , و ما هو من الكتاب . و يقولون هو من عند الله . و ما هو من عند الله . و يقولون على الله الكذب , و هم يعلمون }
و في سورة آل عمران 187 { فنبذوه وراء ظهورهم , و اشتروا به ثمنا قليلا , فبئس ما يشترون }
هذه الآيات الصريحة , يعتبرها علماء التفسير , موجهة الى كتبة التوراه و الأنجيل وحدهم , مصرين على أنها لا تعنيهم من بعيد أو قريب . لكن هذا الحل التلفيقي اليائس لا يثبت شيئا , سوى حاجة المفسرين الى الحلول الملفقة .
إن حصيلة الجهل النهائية هي أن يصبح جهلا حاصلا من دون نهاية .
فالقرآن ليس كتابا بالشيفرة , و لا يحتاج الى علم يفسره . إنه دعوة الى الشرع الجماعي , مهمته أن يبيد نظم الأقطاع , و يضع نهاية لسيطرة الخرافة على عقول العرب بالذات . و ما دامت ثقافتنا العربية تتعمد أن تتجاهل هذه الحقيقة , فلا مفر من أن تصاب بالعقم , و تنقسم تلقائيا بين رجلين عقيمين , كلاهما (( مثقف)) من دون ثقافة , و كلاهما أكذوبة من دون مستقبل
إنتهى المنشور ؛
مع المودة و الأحترام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق