الألحاد هو رفض فكرة الأله
يكون هذا كافيا طالما أمتلك الملحد مايجعله يبرر رفضه لكل ماهو ميتافيزيقى .
إذن يكون الألحاد هو كلمة- لا - كبيرة يعلنها الملحد ضد كل ماهو خرافة وغير خاضع للأستدلال و التعاطى ..
فى الالحاد التقليدى يكون رفض الصورة المطروحة من خلال الأديان والمعتقدات لها ما يبررها ...فالبضاعة
المطروحة من خلال الدين شديدة الفساد وغير صالحة للأستهلاك الأدمى ..ويستطيع الأنسان أن يجد تراثا
هائلا من الخرافة تجعله يتيقن من تناقض فكرة الله وضعفها وهشاشتها .
الملاحظ دوما أن إلحاد معظم الملحدين وأنا منهم جاءت من عبثية وسذاجة فكرة الله كما تطرحها الاديان ...
علاوة على تناقضها الداخلى وعدم وجود أى ألية تثبت وجودها .
تكون هكذا رؤية كافية لرفضك لفكرة الأله ...لأنك ترفض ماهو مقدم إليك من أفكار مهترئة ليس لها أى أساس
مادى أو عقلانى أو علمى وتفتقر لأى وسيلة للأستدلال والأثبات .
ولكن ...هل يصبح الألحاد هو فكر ناقد مكتفيا بهذا الدور فى رفض كل ماهو عبثى وغيرمحقق .
كثيرون يرون ذلك ويكون الصواب فى جانبهم ...فالألحاد غير مكلف أن يقدم رؤية بديلة أو نظرية جديدة .
ولكن واقعنا العربى الذى لم يتخلص من ثقافة الحكاية لا يقنعه هذا الأمر ...فلقد تعودنا على حدوتة بسيطة تفى
حاجاتنا المعرفية .
الأنسان العربى نتيجة ترسخ الأسطورة فى داخله وجد فيها كل ما يريحه من معرفة بسيطة وساذجة ومشوهة
تجعله يعزف عن الجدالات الفلسفية بالرغم من أهميتها .
فهل يستطيع الألحاد أن يقدم فكرة وحدوتة بديلة للأسطورة الألهية والدينية .؟
الجواب أنه يستطيع ولكن الأمور ليست بالسهولة بمكان ..علينا هنا أن نطرح كل ما توصل إليه العلم فى شتى
مجالات المعرفة والطبيعة لنؤسس فكرا ماديا جدليا علميا جديرا أن يحل مكان الخرافة والغيبيات .
هذا ما نبغيه من موضوعنا هذا ...أن نقدم رؤية جيدة ومتماسكة لتأسيس فكر إلحادى مادى جدلى .
بداهة لن تكون الأمور على شكل قصة وحدوتة ..بل منهج فكرى يتكون من جزيئات من الرؤى والحقائق مكونة
نسيج متماسك من المعرفة .
ستقابلنا مشكلة المقالات العلمية الشديدة الصعوبة مما قد لا يحتملها الكثيرون ..لذلك سنبدأ بتقديم فلسفة مادية
ومنهج للتفكير يكون كافيا لخلق فكر إلحادى مستقل له بنيته الخاصة .
لن نحفل بنقد الأديان بقصصها وأساطيرها ..بل يمكن أن نحلل الأسطورة وفقا لأدواتنا ورؤيتنا الجدلية .
سنحاول أن نكون بعيدين عن فكرة الله ...إلا مايخص تحليلنا لنشأة الفكرة وتطورها .
سأثرى هذا الموضوع بمقالات لكتاب مميزين لهم فكر جدير بالأحترام ...أملا فى تكوين ثقافة إلحادية متجذرة على
أرض الواقع خالقا فكرا مستنيرا واثقا وواعدا ..
لا أخفى عليكم أن المحصول الذى سنقدمه سيكون شديد الثراء ولن يخلو من الإطالة والصعوبة فى بعض الأحيان ولكن ما يشفع له هو أننا سننال فى النهاية ثقافة إلحادية قوية ومتجذرة بعيدا عن الله .
1- تخلُّف -السؤال-!
تخلُّف الثقافة والفكر عندنا نراه في "الجواب".. في أجوبتنا الثقافية والفكرية؛ وليس في قَوْلنا هذا ما يُعَدُّ اكتشافاً جديداً. ولكنْ، ثمَّة مقياس آخر يمكن أن نقيس به تخلُّفنا هذا، وقلَّما حظي بالاهتمام، على أهميته الكبرى، وهو "السؤال"، فَقُلْ لي عمَّا تسأل، وكيف تسأل، أقول لكَ من أنتَ، لجهة محتواك الثقافي والفكري.
السؤال عن شيء، هو في حدِّ ذاته مقياس نقيس به المحتوى الثقافي والفكري لسائله، ونمط الحاجة المعرفية التي يريد تلبيتها من خلال الجواب عن سؤاله، فشتَّان ما بين من يسأل (باهتمام) عن علامات ظهور المهدي، ومن يسأل (باهتمام) عن السبب الذي يَحْمِل بعضاً منَّا على تَرَقُّب ظهوره، وظهور من يشبهه، أو ما يشبهه، من قوى "الخلاص الأبدي".
أمَّا الأهم من محتوى السؤال، أي الشيء الذي تسأل عنه، فهو "طريقة السؤال"، فثمَّة اكتشافات معرفية في منتهى الأهمية ما كان لها أن تكون لو لم يشق الطريق إليها "سؤال ذكي"، ولو لم يتَّخِذ هذا السؤال من كلمة "لماذا" فاتحة له.
إنَّكَ لن تتوصَّل إلى اكتشاف معرفي جديد لو ظللتَ تَفْتَتِح سؤالكَ، أو أسئلتكَ، بكلمات من قبيل "متى"، و"أين"، و"كيف"، على أهميتها وضرورتها لجهة معرفة تفاصيل ما حَدَث، فالسؤال عن "زمان" و"مكان" الحَدَث، وعن "كيفية حدوثه"، نرى أهميته الكبرى في الصحافة والإعلام على وجه الخصوص، أي في عملٍ يستهدف "المعلومة" في المقام الأوَّل.
وعلى أهمية الصحافة في صناعة ونشر الجواب المتأتي من "السؤال الإعلامي (أو الاستعلامي)"، فكثيراً ما رأيْنا "السائل الإعلامي" يسيء السؤال، عن قصد، أو عن غير قصد، فيسأل الذي يتوجَّه إليه بالسؤال، توصُّلاً إلى معلومة، أو رأي، أو موقف، سؤالاً فيه معظم الجواب، إنْ لم يكن كله، كأن يسأل زعيماً عربياً عن رأيه في ما تحقَّق لمجتمعه من تقدُّم وتطوُّر في عهده، وكأنَّ غاية السؤال هي الإجابة التي يريدها المجيب!
إنَّكَ تستطيع أن تؤلِّف كُتُبَاً في أمْر حَدَث ما إذا ما كانت الإجابات التي تسعى إليها هي من نمط الإجابات التي تأتي بها أسئلة "متى"، و"أين"، و"كيف"؛ ولكنَّكَ تشعر بالعجز (الذي قد تتغلَّب عليه في آخر المطاف) عن كتابة أسْطُرٍ في أمْر هذا الحدث إذا ما اختلفت طريقة سؤالكَ، كأنْ تسأل "لماذا حَدَث هذا الذي حَدَث الآن، وليس من قبل؟"، و"لماذا حَدَث على هذا النحو، وليس على نحو آخر؟".
بأسئلة تبدأ بـ "متى"، و"أين"، و"كيف"، يُمْكِنكَ أن تعرف الحَدَث معرفة أوَّلية، لا بدَّ منها؛ ولكنَّ هذه المعرفة لا تتعمَّق وتكتمل، ولا تُضيف إلى معارفنا شيئاً جديداً، ويُعْتَدُّ به، إذا لم تَقْتَحِم بابها بـ "سؤال لماذا". وأنتَ يكفي أن تأتي ببديهية أو مسلَّمة ما، وأن تَقْتَحمها بـ "سؤال لماذا"، حتى تشعر أنَّ جهلاً كبيراً قد وُلِدَ من هذه "المعرفة اليقينية"، وأنَّ هذا السؤال الجديد، أي الذي كانت أداته "لماذا"، يتحدَّاكَ أن تجيبه.
أليسَ بديهية أن تقول إنَّ الأرض هي التي تدور حول الشمس، وليست الشمس هي التي تدور حول الأرض؟ إذا قُلْتَ هذا فإنَّكَ تُثْبِت أنَّكَ تَعْرِف؛ ولكن من غير أن تضيف إلى هذا الذي تَعْرِف شيئاً. أمَّا لو تجرَّأتَ وسألْت "لماذا الأرض هي التي تدور حول الشمس، وليست الشمس هي التي تدور حول الأرض؟"، لَوَجَدَتَّ نفسكَ في مواجهة تَحَدٍّ معرفي كبير، فإذا اسْتَجَبْتَ له، وعَرَفْتَ كيف تستجيب له، فإنَّكَ تتوصَّل، أو تشارِك في التوصُّل، إلى اكتشاف معرفي جديد، في منتهى الأهمية.
إنَّ "لماذا"، التي تَنْدُر وجوداً، في سؤالنا الثقافي والفكري، فتأتي أجوبتنا، بالتالي، بما يبقي على تخلُّفنا الثقافي والفكري، ويُعمِّقه ويوسِّعه، هي المِعْوَل الذي به يُمْكننا، وينبغي لنا، هَدْم ما نحن فيه من "وثنية فكرية"، تَحْمِلنا دائماً على اتِّخاذ مسلَّمة فكرية ما، يعوزها الإثبات، دليل إثبات، أو نفي، في قضايانا الثقافية والفكرية.
إنَّنا ما زلنا "أُمَّة لكلِّ سؤال جواب"، فليس من سؤال يُسْأل اليوم ولَمْ نُجِبْ عنه من قبل، وكأنَّنا "أُمَّة الحقيقة المطلقة"، التي ليس من سؤال يُمْكِن أن يَخْدِش مسلَّماتها الثقافية والفكرية، أو يَحْملها على "نَسْبَنة" أجوبتها، أي جعلها "نسبية"، أي "عِلْمية"، فمنزلكَ، مثلاً، إنَّما يقع دائماً على يمين الشارع، ولا يُمْكِن أن يقع على يساره، أي أن يكون على يمينه ويساره في آن.
وأحسبُ أنَّ خروجنا من الظُلُمات إلى النور، ثقافياً وفكرياً، يبدأ، أي يجب أن يبدأ، بتحوُّلنا إلى "أُمَّة سؤال"، تأتي بكل مسلَّمة من مسلَّماتها الثقافية والفكرية، وتَضَع في نهاية سطرها كلمة "لماذا"، فـ "الأُمم العِلْمية" إنَّما تُميِّز نفسها، ثقافةً وفكراً، بـ "سؤال لماذا"، من غير أن تضرب صفحاً عن "متى"، وأين"، و"كيف"، في أسئلتها. إنَّها تبدأ بها؛ ولكنَّها لا تتوقَّف عندها، فهي ليست سوى بداية الغوص في بحور المعرفة على أنواعها.
ملايين البشر، وفي كل الأزمنة والأمكنة، رأوا تُفَّاحاً يسقط إلى الأرض من شجره، فاعتادوا هذا المشهد حتى غلبت "العادة"، في وعيهم، "الحاجة". وحده نيوتن اكتشف إذ سأل "لماذا التفَّاحة المنفصلة عن غصنها تتحرَّك إلى أسفل (أي تسقط) ولا تتحرَّك إلى أعلى (أي تصعد).
و"التُّفاح" من معارفِنا على نوعين اثنين: "كلُّ التُّفاح" و"تفَّاحة نيوتن".
وأجوبتنا الثقافية والفكرية على نوعين اثنين: نوعٌ تتغلَّب فيه "العادة" على "الحاجة"، ونوع تتغلَّب فيه "الحاجة" على "العادة". ولقد حان لنا أن نجيب بما يلبِّي الحاجة (الفكرية والثقافية والمعرفية) وليس بما يوافِق ويُرْضي عاداتنا في الفكر والتفكير؛ ولكنَّنا لن نخطو ولو خطوة واحدة كبرى على هذا الدرب إذا لَمْ نَفْهَم "الحرَّية" على أنَّها "السؤال الحر" أوَّلاً، فتحرير العقل العربي إنَّما يبدأ بـ "تحرير السؤال"، فلا سؤال يظلُّ سجيناً في زنزانتنا الفكرية إلى الأبد!
2- الوعى
"الوجود" و"العدم" هما من المفاهيم الفلسفية الأساسية.. وقد شرعا، في القرن العشرين على وجه الخصوص، يتغيَّران بما يجعلهما جزءا أيضا من مفاهيم الفيزياء، فبعضٌ من القائلين بنظرية "الانفجار الكبير" Big Bang يتحدَّثون عن خَلْقٍ للمادة من العدم، وعن "الاستمرارية" في هذا الخَلْق. وهُمْ يفهمون هذا الخَلْق على أنه حَدَثٌ يَحْدُث "في غفلةٍ" من قانون "حفظ المادة (حفظ الكتلة والطاقة)"، ولا يؤدِّي، أبدأ، إلى زيادة مقدار المادة في الكون؛ لأنَّ المادة المخلوقة، بحسب زعمهم، من العدم سرعان ما تفنى. إنَّها، بزعمهم، تفنى قبل أن "يحسَّ" بوجودها قانون "حفظ المادة"!
"الوجود" و"العدم" إنَّما هما نقيضان، أو ضدان؛ ولكن ليس في المعنى الدياليكتيكي، فالدياليكتيك يَفْهَم النقيضان، أو الضدان، على أنهما شيئان متَّحِدان، متداخلان، لا يمكن، أبدا، أن يستقل أحدهما، في وجوده، عن الآخر.. وعلى أنهما شيئان يتحوَّل كلاهما إلى الآخر. إنَّ "الوجود" و"العدم" لا يتداخلان، ولا ينطوي كلاهما على الآخر، ولا يتحوَّل إليه؛ لأنَّ "العدم" خرافة فلسفية (وفيزيائية).
"الوجود" إنَّما يشمل كل ما هو "موجود". و"الموجود" بعضه "مادة"، وبعضه "لا مادة". وهذا الـ "لا مادة" إنَّما هو "الوعي" و"الفكر" و"الشعور".. و"الروح". من "الوجهة الكمِّيَّة"، يمكن القول أنَّ "المادة" هي "معظم" الوجود؛ وقد كانت حتى ظهور الحياة، وظهور الإنسان على وجه الخصوص، "كل" الوجود. ولمزيدٍ من الوضوح، أقول إنَّ كل مادي (أي كل ما هو مادي) موجود؛ ولكن ليس كل ما هو موجود مادي، فـ "الوعي"، أي وعي الإنسان ـ الاجتماعي، موجود؛ ولكنه ليس بـ "المادة"، أو بـ "الشيء المادي".
إذا قُلْنا بوجود يتألَّف من "مادة" و"وعي" فلا خلاف بيننا وبين "المثاليين (الموضوعيين والذاتيين)". الخلاف يبدأ عند البحث في أوجه العلاقة بين "المادي" والـ "لا مادي"، بين "المادة" و"الوعي (الفكر، الشعور، الروح)". الخلاف يبدأ عندما نقرِّر، بمعونة العِلْم، أنَّ "المادة" هي "الواقع الموضوعي، القائم في خارج الوعي، وفي استقلال تام عنه، والذي يمكنه أن ينتقل إلى الدماغ البشري، عَبْر الحواس، في شكل أحاسيس، منها، وبها، نؤسِّس المفاهيم والأفكار..". عندما نقرِّر، وبمعونة العِلْم أيضا، أنَّ "المادة" يمكنها أن تُوْجَد، وقد وُجِدَت، وهي موجودة، من دون "الوعي"، الذي لا يمكنه، أبدا، أن يُوْجَد من دون "المادة"، التي كانت ولم يكن من وعي.
"الوعي" إنَّما هو خاصِّية الدماغ البشري، التي تظلُّ كامنة، غير ظاهرة، حتى يستوفي "الوعي" شرطه الاجتماعي، فـ "الوعي" هو خاصِّية دماغ "الإنسان الاجتماعي". و"الوعي" لا يُوْجَد، ولا تقوم له قائمة، من دون ثلاثة أشياء: "الدماغ البشري"، و"العالم المادي الخارجي"، أي كل ما يُؤثِّر في حواسِّنا من مادة، و"المجتمع".
قد يُحيِّرني مشهد "المغناطيس يَجذب إليه برادة من الحديد بقوَّة غير مرئية"، فأتصوَّر خَلْقاً لهذا المعدن (المغناطيس) مشابهاً لـ "الخَلْق التوراتي للإنسان". قد أتصوَّر أنَّ المغناطيس خُلِقَ من "معدن يخلو من خاصِّية الجذب"، ثم قامت "القوَّة الميتافيزيقية الخالِقة" بإدخال هذه الخاصِّية فيه، فدبَّت فيه "المغناطيسية".
هذا التصوُّر إنَّما ينبثق من "خَلَلٍ" في فَهْم العلاقة بين "الشيء" و"خواصِّه". إنَّ الشيء المجرَّد من خواصه (الجوهرية التي تميِّزه من غيره) لا وجود له، وإنَّ الخواص المجرَّدة من الشيء الذي يشتمل عليها لا وجود لها، فالمغناطيس المجرَّد من المغناطيسية لا وجود له، والمغناطيسية المجرَّدة من المغناطيس لا وجود لها.
وفي "الخواص"، نقول أيضا إنَّ بين "الشيء" و"خواصِّه" وحدة عضوية لا انفصام فيها، فـ "المادة الحيَّة" لا تُوْجَد إلا ومعها، وفيها، خواصُّها الجوهرية. جَرِّد "المغناطيس" من "خواصِّه الجوهرية"، فهل يبقى من وجود للمغناطيس ذاته؟! كذلك يكفي أن تُجرِّد "المادة الحيَّة" من خواصِّها الجوهرية حتى لا يبقى من وجود لهذه المادة.
القائلون بـ "القوَّة الميتافيزيقية الخالِقة" لا يُخالِفونكَ الرأي في أنَّ الدماغ البشري هو "مادة"، ولكنَّهم يفهمونه، كما يفهمون "المادة" في وجه عام، أي أنَّهم ينظرون إليه على أنَّه "مادة خاملة"، لا يمكنها أن تقوم، تلقائياً أو من تلقاء نفسها، بالعمل الذي تقوم به، فهي ليست سوى "أداة مادية" في "يد لا مادية خفيَّة"، اسمها "الروح"، فالدماغ البشري ليس أكثر من "قفاز" تلبسه هذه اليد!
"الروح" هي التي تأمر هذه "المادة"، أي الدماغ البشري، فتُطيع وتُنفِّذ. تقول لها إفعلي هذا فتفعل، ولا تفعلي هذا فلا تفعل!
فإذا أنا عطِشْتُ، فشربتُ الماء، فإنَّ عملي هذا هو نتيجة "أمر" أصدَرَتْهُ "الروح"، التي اتَّخذت "الدماغ" وسيلة مادية لنقل "الأمر" إليَّ، فنَفَّذْتُهُ إذ تناولتُ كأس الماء وشربت!
الدماغ البشري، في تصوُّرهم هذا، إنَّما هو "مادة" عاجزة عجزاً مطلقاً عن أن تقوم بما تقوم به من عمل ونشاط من دون ذلك "الأمر" الذي يجيئها من تلك "القوَّة اللا مادية الخفيَّة" التي اسمها "الروح".
الكائن المادي، مهما كان نوعه أو حجمه، إنَّما هو "واقع موضوعي". فهذا الكائن (القمر مثلاً) لا يُوْجَد "في داخل وعي" الإنسان، وإن وُجِدَت "صورته" في داخل هذا الوعي، كما أنَّ الوعي ليس بالقوَّة التي تجعل هذا الكائن موجوداً، أي "تَخْلِقه"، في خارج وعي الإنسان.
إنَّه موجود في خارج وعي الإنسان، وفي استقلال تام عن هذا الوعي، فهذا الكائن الذي شقَّ طريقاً له إلى أحاسيسنا، التي تنسخه وتصوِّره وتعكسه، إنَّما يُوجَد في خارج وعي الإنسان، وفي شكل مستقل عنه، ثمَّ نحس به عَبْر حواسنا، فندركه بعقولنا ونفهمه.
أَنْظُر إلى القمر، ثمَّ أغمِض عينيَّ، فأرى "صورة القمر" في ذهني (أتصوَّره). فهل القمر (لا صورته) يُوْجَد (بالفعل) في داخل ذهني، أو وعيي؟ كلاَّ لا يُوْجَد. وإذا لم يكن موجوداً في داخل وعيي فهل يكون وجوده (الفعلي) في خارج وعيي مرتبط بوعيي؟ هل أنَّ وجوده هذا قد خَلَقَهُ وعيي؟ كلاَّ لم يَخْلِقه.
إنَّ "المادي" هو كل ما يُوجَد موضوعياً، أي في خارج وعي الإنسان، ومستقلاًّ عنه. الوعي (مهما كان نوعه) لم يأتِ قَبْلَ المادة ليخلقها من ثمَّ. ولمَّا كانت الأرض قد وُجِدَت قَبْلَ ظهور الإنسان والكائنات الحيَّة عموماً بملايين السنين صار واضحاً أنَّ المادة والطبيعة موضوعيتان، مستقلتان عن الإنسان ووعيه، وأنَّ الوعي هو ذاته نتاج للتطور الطويل للعالم المادي، فالخاصِّية المشتركة بين كل الأشياء والظواهر (المادية) تكمن في كونها موجودة في خارج وعينا، ومستقلَّة عنه، ومنعكسة، أو يمكن أن تنعكس، فيه.
لقد نَظَرْتُ إلى هذا الشيء (المادي) الذي أمامي، ثمَّ أغمضتُ عينيَّ.. هل أستطيع أن "أراهُ"، الآن، حيث أغمضتُ عينيَّ؟ أجل أستطيع، ولكن هذه "الرؤية" ليست بالكاملة، فهناك جزء كبير من "تفاصيل" هذا الشيء لا "أراهُ" بـ "عينيَّ المغمضتين".
إنَّني في هذه الحال من "الرؤية" لا أرى الشيء ذاته، وإنَّما "أرى" صورته المثالية، أي صورته الموجودة في داخل وعيي. وهذه الصورة لا تشتمل، كما أوضحنا، على كل تفاصيل "أصلها"، أي على كل تفاصيل هذا الشيء الموجود وجوداً موضوعياً.
إنَّني "أرى" هذه الصورة المثالية، أي الموجودة في داخل وعيي فحسب. وعليه، أستطيع القول إنَّها "موجودة"، ولكن وجوداً غير موضوعي، وإنَّها "واقع"، ولكن واقعاً غير موضوعي.
إنَّها موجودة؛ ولكنَّها موجودة؛ لأنَّ "اصلها" موجود في الواقع الموضوعي، فلو كان غير موجود لاستحال وجودها في داخل وعيي. وغنيٌّ عن البيان أنَّ "أصلها"، الموجود في خارج وعيي، قد وُجِدَ قَبْلَها، وأنَّ أي تغيير قد يطرأ عليها لن يؤثِّر، على الإطلاق، في "أصلها"، الذي كل تغيير يطرأ عليه يؤثِّر فيها. فإذا طرأ أي تغيير على "الأصل"، ففتحتُ عينيَّ، ثم أغمضتُّهما، فلسوف "أرى" هذا التغيير الجديد في الصورة المثالية لـ "الأصل".
وهناك أشياء في الواقع الموضوعي أعجز تماماً عن رؤيتها بـ "العين المجرَّدة"، كجزيء الماء مثلاً، فكيف يمكنني، في هذه الحال، أن "أرى" صورها المثالية؟ الحل لهذه المشكلة يكمن في "التطور التكنولوجي"، الذي جاءنا بـ "المجهر الإلكتروني"، فتمكَّنا بفضله من أن نرى بعضاً منها، ومن أن "نرى"، بالتالي، صوره المثالية.
ونحن لا نملك، الآن، من هذه "التكنولوجيا"، أو من "العين الاصطناعية"، ما يسمح لنا برؤية أشياء (مادية) أصغر حجماً، ولكننا نرى بـ "العين المجرَّدة"، أو بـ "العين الاصطناعية"، ما يدلُّ على وجودها، أي ما يدلُّ على أنَّها موجودة وجوداً موضوعياً. فـ "الشيء" الموجود وجوداً موضوعياً إمَّا أن نراه مباشرةً (بـ "العين المجرَّدة"، أو بـ "العين الاصطناعية") وإمَّا أن نرى (من الأشياء) ما يدلُّ على وجوده الموضوعي ويؤكِّده.
إنَّني أرى، الآن، بـ "العين المجرَّدة" الآتي من الأشياء (والظواهر): كرة من الرصاص، قُمْتُ بإلقائها في إناء ممتلئ بالماء، فانسكب بعض من هذا الماء. لو أغمضتُ عينيَّ، بَعْدَ ذلك، فإنَّني أستطيع أن "أرى" صورة هذه العملية مع أشيائها، في داخل وعيي، أي أنَّني أستطيع رؤية صورتها المثالية الناقصة التفاصيل. عَبْر هذه العملية، وعَبْر غيرها من العمليات المشابهة، تمكَّن آرخميدس من اكتشاف "القانون" الآتي: إذا غُمِر جسم في سائل فإنَّه يفقد من وزنه بقدر وزن السائل المُزاح.
في هذه الطريقة نتوصَّل إلى اكتشاف "القوانين الموضوعية"، فتَشْغُل صورها المثالية حيِّزاً من وعينا. ولكَ أن تقارن، الآن، بين صورتين مثاليتين موجودتين في داخل وعيكَ: "صورة القمر"، مثلاً، و"صورة قانون آرخميدس"، مثلاً. في المقارنة، سترى أوجه التماثل، وأوجه الاختلاف، التي من أهمها هذا "التجريد" في "صورة قانون آرخميدس".
وفي داخل وعيي يُوجَد، أيضاً، صوراً مثالية ليس من أصول لها في الواقع الموضوعي، مثل صورة "عروس البحر"؛ ولكن حتى هذه الصور ما كان ممكناً أن تُوجَد في داخل وعيي لو لم تكن مؤلَّفة من "عناصر" لها أصول في الواقع الموضوعي. وهذه الصور إنَّما تشبه في عملية تركيبها أن تجيء بصور فوتوغرافية لأشياء عدة، ثم تقوم بتجزئة كل صورة بالمقص، ثم تأخذ جزءاً من كل صورة، ثم تُركِّبَ من هذه الأجزاء صورة جديدة، لن تَجِدَ، أبداً، أصلاً لها في الواقع الموضوعي، وإن كان لكل عنصر (أو جزء) منها أصل في هذا الواقع.
ولكن ما الفَرْق بين هذين الشيئين الماديين: "القمر" و"الطاولة"؟ "القمر" لم "أخْلِقهُ" أنا، ولم "يَخْلِقهُ" البشر، فقد وُجِدَ قَبْلَ وجودي، وقَبْلَ وجود البشر. أمَّا هذه "الطاولة" فقد قُمْتُ أنا بـ "خَلْقِها"، ولكنَّني لم "أخْلِقها" من "العدم"، أي من "لا شيء". لقد "خَلقْتُها" من أشياء مادية كانت هي، أو كانت عناصرها، موجودة قبلي، وقَبْلَ وجود البشر.
الطاولة، قَبْلَ أن "أخْلقها" كانت "فكرة" في رأسي، أي كانت "صورة مثالية" موجودة في داخل وعيي. ولكن هذه الصورة لم تتكوَّن في داخل وعيي إلا لأنَّ لعناصرها أصولا في الواقع الموضوعي.
الآن، وبمعونة هذه الصورة المثالية، قُمْتُ بـ "خَلْق" الطاولة. وهذا "الخَلْق" ليس من "العدم"، فـ "خَلْقي" للطاولة ليس سوى عملية تركيب مادي، فمِنْ أشياء، أو مِنْ عناصر، موجودة قبلي، وقَبْلَ وجود البشر، قُمْتُ بـ "تركيب" هذا الشيء الجديد، أي الطاولة.
في هذه الطريقة من تفاعل "الذات" و"الموضوع"، نقوم بـ "خَلْق" أشياء مادية في استمرار. و"الطاولة"، الآن، هي "واقع موضوعي". إنَّها، وبخلاف صورتها المثالية، موجودة في خارج وعيي، الذي مهما أحْدَثَ من تغيير في صورتها المثالية، لن يتمكَّن، على الإطلاق، من التأثير فيها، فكل تغيير واقعي يطرأ على الطاولة، من الآن وصاعداً، إنَّما هو نتيجة تبادلها التأثير المادي مع غيرها من الأشياء، التي قد يكون من بينها قواي المادية أنا.
إنَّ أحداً من ذوي "التفكير الموضوعي" لا يُشكِّك في "مادِّية" الدماغ البشري، فهذا التشكيك إنَّما نَجِدْهُ عند أولئك الذين يشكِّكون في "مادِّية" المادة، ويقولون بـ "جوهر روحي"، أو بـ "جوهر لا مادي"، يكمن في المادة، و يجعلها "حيَّة"!
و"الوعي (البشري)" إنَّما هو ثمرة "التفاعُل" بين هذا "العضو"، أي الدماغ، و"العالم المادي". وهذا "الوعي" يشبه ما ينعكس على "المرآة" من أشياء وأجسام، أي أنَّه يشبه "صورة" جسم في مرآة. ومن الأهميَّة بمكان أن نقول إنَّ المرآة تُريكَ ما تُريها فحسب، فـ "الجسم" الذي "لا تراهُ" المرآة لا يمكنها أن تُريكَ "صورته"، أي انعكاسه عليها.
لنفترض أنَّكَ نَظَرْتَ في "مرآة" فوَجَدْتَ فيها "صورة" منزل، فهل يعني ذلك أنَّ "المنزل ذاته" موجود في "المرآة"؟ كلا، لا يعني، فالموجود فيها إنَّما هو "صورته"، التي هي انعكاس المنزل على المرآة.
ما ينبغي لكَ استنتاجه عندما ترى هذا "الانعكاس" هو أنَّ "أصل الصورة"، أي "المنزل"، يجب أن يكون موجوداً "في خارج المرآة"، و"مستقلاً"، في وجوده، عن "صورته" في المرآة، فإذا تغيَّر "الأصل" تغيَّرت "الصورة".
وينبغي لكَ أن تستنتج، أيضاً، أنَّ كل ما هو موجود من "صُوَر" في المرآة يجب أن يكون موجوداً، في أُصوله، في "الواقع الموضوعي"، ولكن ليس كل ما هو موجود في "الواقع الموضوعي" يجب أن يكون منعكساً على "المرآة". في "المرآة الدماغية" تُوْجَدُ، مثلاً، صورة "برتقالة"، فأنا نَظَرْتُ إلى "هذه" البرتقالة، ثمَّ أغمضتُ عينيَّ، فرأيتُ "صورتها" في "مرآة دماغي".
بـ "عيني المجرَّدة" استطعتُ "تمييز" البرتقالة. وبها، أيضاً، أستطيع تمييز أجسام لا يقلُّ مقاسها عن عُشر المليمتر. ولتمييز الأجسام الأصغر لا بدَّ من استخدام "عدسة مُكبِّرة"، أو "مجهر"، أو ما شابه ذلك من "الأجهزة البصرية".
ولكن، ثمَّة "أسباب موضوعية" تحول بيننا وبين صُنْع "عين اصطناعية (أو تكنولوجية)" يمكننا من خلالها أن نرى "عالَم الذرَّة"، وأن نرى منه "الجسيمات"، "والمتناهي في الصِغَر" من المادة، مثل "الإلكترون" أو "الكوارك".
يصبح في مقدورنا أن نرى تلك الأشياء، التي لا يمكننا، أبداً، أن نراها بـ "العين المجرَّدة"، بفضل "التكبير لصُوَرِها". على أنَّ هذا "التكبير" له "حدٌّ أقصى" لا تسمح لنا "طبيعة الضوء"، بتخطِّيه. ونحن نَعْلَم أنَّ "الرؤية" مستحيلة من دون الضوء الصادِر عن "الجسيم"، أو عن "المتناهي في الصِغَر" من المادة.
في سعينا إلى رؤية "الجسيمات"، بحجومها المختلفة، نصطدم بـ "عقبتين موضوعيتين"، يتعذَّر، إن لم يستحل، تخطِّيهما، فـ "التكبير" له "حدٌّ أقصى"، و"الوسائل" التي نستخدمها (في تكبير صورة الجسيم) ليست بالوسائل المعدومة الأثر في طبيعة وخواص "الجسيم"، فيؤدِّي ذلك إلى اختلاف في الجسيم ذاته، وفي صورته بالتالي.
كل ما في الرأس البشرية من أفكار ومعتقدات، من حقائق وأوهام، من صُوَر ذهنية، أكانت "واقعية" أم "خيالية"، ما كان لها أن تُوْجَد لو لم تكن لها، أو لعناصرها ومكوِّناتها، "أُصول مادية"، فـ "المادي"، وحده، هو الذي يُصوَّر تصويراً مثالياً في الدماغ البشري. إنَّ الذي لا وجود له، أو لعناصره، في العالم المادي لا يمكنه، أبداً، أن يشغل "حيِّزاً فكرياً" في الدماغ.
لـ "المنزل" صورة مثالية في رأسِكَ؛ لأنَّه شيء موجود في العالم المادي. ولـ "عروس البحر"، التي ليس لها من وجود في العالم المادي، صورة مثالية في رأسِكَ؛ لأنَّ لعناصرها ومكوِّناتها وجودا في العالم المادي. أمَّا الشيء الذي ليس بـ "مادة"، في أصله أو عناصره، فلن يكون له من صورة فكرية أو مثالية في رأسِكَ.
هل تستطيع أن تتصوَّر "العدم"؟ كلاَّ، إنَّكَ لا تستطيع ذلك أبداً؛ لأنَّه "عدم"، أي لأنَّه "شيء" لا وجود له في العالم المادي!
هل تستطيع أن تتصوَّر "كائناً ميتافيزيقياً، مثالياً، لا مادِّياً"؟ كلاَّ، إنَّكَ لا تستطيع ذلك أبداً، ولو توهَّمتَ أنَّكَ تستطيع، فهذا "الكائن" تستطيع أن تُصوِّره، في دماغكَ، تصويراً مثالياً. ولكن يكفي أن تمعن النظر، ولو قليلاً، في صورته الذهنية حتى ترى أنَّ صورته تتألَّف من عناصر لها أُصول في العالم المادي. في صورته المثالية، سيَظْهَرُ في صفات وخواص "مادية"، فليس في "مخزون" الدماغ البشري من "الصور الذهنية" إلا ما يؤكِّد مادية العالم، و"مادية" المادة!
الوعي إنَّما يرتبط بعمليات فيزيولوجية مادية محدَّدة؛ ولكن لا يجوز النظر إليه على أنَّه شيء مادي، فالفكر ليس شيئاً، وتستحيل رؤيته أو تصويره. الفكر هو الصورة المثالية (لا المادية) للأشياء والظواهر المادية. الفكر ليس بالصورة الفوتوغرافية للعالم المادي، فـ "المثالي" ليس سوى "المادي" منعكساً في الذهن الإنساني، ومحوَّلاً فيه.
والوعي، أو التفكير، لا يلازم المادة كلها، فهو ليس من خواص الطبيعة كلها. إنَّه يلازم، فحسب، "المادة المفكِّرة"، أي المخ الإنساني. المادة كلها لا تلازمها إلا خاصِّية "الانعكاس"، أي المقدرة على أن تستجيب في طريقة محدَّدة للمؤثِّرات الخارجية.
الشيء لا ينشأ إلا في بيئة طبيعية محدَّدة، فيخضع، بالتالي، لمؤثِّرات خارجية محدَّدة. إنَّه ينشأ أو يُوْجَد في "بيئة طبيعية محدَّدة"، وليس في أي بيئة، فالبيئة يجب أن تكون بخصائص تسمح له بالعيش فيها. هذا الشيء لا يُوْجَد، أو لا يستمر في الوجود، إلا إذا كانت لديه المقدرة على أن يستجيب في طريقة محدَّدة للمؤثِّرات البيئية التي يخضع لها. هذه الاستجابة تُتَرْجَم بتبدُّلات معيَّنة تطرأ على الشيء، فنرى في هذه التبدُّلات انعكاساً للمؤثِّر الخارجي في الشيء. الشيء يستجيب للمؤثِّرات الخارجية في طريقة محدَّدة حتى يتمكَّن من الحفاظ على وجوده، فاستجابته ليست سوى طريقة يتكيَّف بها الشيء مع تأثير هذه المؤثِّرات الخارجية. ولكن مقدرة الشيء على التكيُّف، ومهما اتَّسعت، تظلُّ محدودة، فإذا ما تأثَّر بمؤثِّر خارجي غير عادي، فإنَّ التبدُّلات التي ستطرأ عليه، عندئذٍ، ستفضي إلى زواله.
إنَّهم يقولون: إذا كان الفكر مثالياً، وليس شيئاً، ولا يمكن العثور عليه في المخِّ البشريِّ، فإنَّ ذلك يعني أنَّه غير مرتبط بالمادة ( بالمخِّ البشريِّ). ويقولون إنَّه موجود مستقلاًّ عنها. ويقولون إنَّه ليس مستقلاًّ عن المادة، فحسب، وإنَّما يخلقها.
لنتأمَّل في العلاقة بين شيء ما وصورته، أو انعكاسه، في مرآة. هل أنَّ صورته في المرآة هي التي تَخْلِقه أو تَخْلِق خصائصه؟!
إنَّ صورته تتبدَّل مع تبدُّله هو، فلا ينعكس في المرآة إلا الشيء الموجود في خارجها والمستقل في وجوده عنها. كل ما ينعكس في المرآة يجب أن يكون موجوداً في خارجها، وفي استقلال عنها. وهكذا لا يُوْجَد في ذهن الإنسان إلا الأشياء الموجودة في خارجه وفي استقلال عنه.
كل شيء أستطيع تصوُّره في ذهني (في وعيي) إنَّما هو "واقع موضوعي". قدرتي على تصوُّره هي، في ذاتها، دليل على أنَّه "واقع موضوعي"، فليس في رأس الإنسان من صور (ذهنية، مثالية) سوى صور "الواقع الموضوعي".. صور مثالية للعالم المادي.
وثمَّة أشياء كثيرة، أو خصائص لأشياء، لا تنسخها أو تُصوِّرها أو تعكسها أحاسيسنا، فليس كل ما في "الواقع الموضوعي" يمكن أن تُصوِّره أحاسيسنا. ولكن ليس ثمَّة شيء ينعكس في مرآة الذهن البشري (إحساس أو مفهوم..) لا يكون، في أصله ومنبعه، جزءاً من "الواقع الموضوعي".
"الصورة الذهنية (أو المثالية)" يمكن أن تكون "مشوََّهة"؛ لأنَّ مرآة الذهن "مشوَّهة". حتى أكثر الصور الذهنية، أو المثالية، تشوُّها تعود، في عناصرها ومكوِّناتها، إلى "الواقع الموضوعي".. إلى العالم المادي. هذه الصورة لا تعكس، في كلِّيتها، "الواقع الموضوعي"، وإنَّما في عناصرها ومكوِّناتها فحسب.
الشيء المادي إنما يُترجَم، عَبْر مُتَرْجِم يدعى "الدماغ البشري"، بلغة أخرى هي الصور الحسِّية والعقلية. اللون الأصفر للتفاحة ينعكس في مرآة الدماغ البشري، أي يظهر هذا اللون، في الدماغ، في شكل "إحساس".. إحساس باللون الأصفر (صورة حسِّية). ولكن لون التفاحة الأصفر ليس، في ذاته، إحساس. "الضوء" (أشعة الضوء) المنبعث من التفاحة الصفراء اللون ينتقل، فيصيب "الشبكية"، فتُنْتِج الشبكية الإحساس باللون الأصفر.
الدماغ ليس دائماً يجيد تصوير "الموضوع" إذ قد يسيئه. شخصان ينظران إلى شيء، أو مشهد، فيريانه رؤيتين مختلفتين. السبب هو أنَّ الإنسان يرى بعين تكمن فيها عين أخرى هي "عين الخبرة والوعي"، فكلٌّ من الشاعر والفنان والفلكي يرى "القمر" رؤية مختلفة.
"الشيء" مادة، و"الدماغ" مادة، ولكن "صورة الشيء" ليست مادة. عمليتان ماديتان، إحداهما تحدث في خارج الدماغ، والأخرى في داخله. أمَّا "الانعكاس" فليس مادياً. إنَّه انعكاس للمادة.
وصور الأشياء في الوعي على أنواع: صور لأشياء موجودة بالفعل في الواقع. وصور لأشياء لا وجود لها، البتة، في الواقع.. لم تُوْجَد من قَبْل، ولن تُوجَد أبداً؛ ولكن عناصرها موجودة في الواقع. وصور لأشياء لا وجود لها، الآن، في الواقع، ولكن هذه الأشياء يمكن أن تُوْجَد مستقبلاً. هذه الصور يبتدعها عقل الإنسان بوحي من حقائق واقعة. وصور لأشياء لا وجود لها، الآن، في الواقع، ولكنَّها كانت موجودة من قَبْل، فزالت واندثرت. ومن خلال ما بقي لها من آثار في الواقع يقوم عقل الإنسان بابتداع صورها.
كيف يستخدم الإنسان وعيه في التفاعل المادي مع الطبيعة؟ عندما يتعرَّض سلك معدني، في أحد طرفيه، للحرارة فإنَّ درجة حرارته ترتفع، ثمَّ يتمدَّد، ثمَّ ينصهر. لو تخيَّلنا أنَّ هذا السلك يستطيع لدى تعرُّضه للتسخين أن يحرِّك طرفه الآخر ليضعه في ماء بارد لكانت النتيجة هي أن يقل كثيراً تأثُّره بالتسخين. لقد كافح السلك تأثير التسخين فيه بأن عرَّض نفسه للتأثير المعاكس للماء البارد.
بما يشبه هذه الطريقة يستخدم الإنسان وعيه في التفاعل المادي مع الطبيعة. الإنسان بوعيه إنَّما يستخدم قوى الطبيعة، أو قوى من الطبيعة، في مكافحة تأثير عوامل طبيعية معيَّنة فيه، أو في تسهيل أو تسريع تأثير عوامل طبيعية أخرى فيه. هذا التفاعل يفضي إلى "نتيجة مادية ملموسة" لها "أسباب مادية ملموسة".
قد نَصْنع أو نَخْلِق هذا الشيء أو ذاك (في سياق التفاعل بين "الذات" و"الموضوع") ولكن هذا الشيء المصنوع أو المخلوق يظل كائناً مادياً لا يَدْخُل في تكوينه أي عنصر "لا مادي"، فإذا ما صَنَعْتُ أو خَلَقْتُ هذا الشيء بمعونة "فكرة" في رأسي فهذا لا يعني، ويجب ألا يعني، أنَّ عنصراً "لا مادياً" قد دخل في تكوينه.
وعي الإنسان الذي "خَلَقَ" هذا الشيء (المنزل مثلاً) إنَّما هو "خاصِّية لا مادية الماهيَّة" للدماغ البشري، المادي الماهيَّة. بفضل هذا الوعي (أو هذه الخاصِّية اللامادية) تتفاعل المادة وقواها مثل أي تفاعل مادي آخر. ويكون هذا التفاعل، في مثال " خَلْقِ المنزل"، بين كل العناصر المادية الداخلة في تكوينه، بما فيها جسم الإنسان وقواه. و"الخلل" الذي يمكن أن يفسد بناء المنزل إنَّما يُعبِّر عن خلل في "الفكرة (فكرة بناء المنزل)" جعلها غير متَّفِقَة، تماماً أو بما فيه الكفاية، مع "قوانين موضوعية" ينبغي لهذه الفكرة أن تتَّفِقَ وتتوافق معها حتى نُوَفَّق في "خَلْقِ المنزل"، فإذا أُنْجِزت هذه المهمة في نجاح فلا حاجة، البتة، إلى التفتيش في داخل مكوِّنات هذا "المخلوق" (المنزل) عن "عنصر لا مادي".
وإنَّه العبث بعينه أن ننفق الجهد والوقت في البحث عن عنصر "لا مادي" يَدْخُل في تكوين "الكوارك" أو "الإلكترون" أو "الطاقة" أو "المجال" أو "البيضة الكونية" أو عمق "الثقب الأسود" Singularity.
ما هو "المنزل"؟ في الجواب عن هذا السؤال يكمن "مفهوم" المنزل. في "الواقع" لا يُوْجَد إلا هذا المنزل أو ذاك، أي المنزل "المحدَّد"، فالمنزل "المجرَّد" أو "المنزل في وجه عام" لا وجود له في الواقع. من خلال معرفة "السمات الجوهرية العامة" الملازمة لكل المنازل "المحدَّدة" نتوصَّل إلى صوغ "مفهوم" المنزل.
ممثِّلو "المثالية الموضوعية" يعتقدون بأنَّ "مفهوم" المنزل يُوْجَد مستقلاًّ عن المنزل "المحدَّد" أو المنازل "المحدَّدة". أكثر من ذلك، إنَّهم يعتقدون بأنَّ هذا المفهوم هو الذي "خَلَقَ" المنازل "المحدَّدة".
كل هذه "الأشياء المحدَّدة" التي نعرفها أو اكتشفنا وجودها تشترك في خاصِّية كبرى مهمة هي "وجودها الموضوعي"، فهي لا تُوْجَد في داخل أي وعي وإنَّما في خارجه، ولم يَخْلِقها أي وعي، أي أنَّها مستقلة، في وجودها وفعلها وتفاعلها، عنه. وهي "الواقع الموضوعي" الذي شقَّ طريقاً له إلى أحاسيسنا، التي تنسخه وتصوِّره وتعكسه. وبفضل صورها الحسِّية والعقلية نتفاعل معها، فنؤثِّر فيها ونتأثَّر، مكتسبين، بالتالي، القدرة على الانتقال من "التفسير" إلى "التغيير".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق