تقديم وتعريب: نادر قريط
العنوان الحرفي لدراسة محمد كاليش M.S.Kalisch هو : لاهوت إسلامي بدون محمد تاريخي، ملاحظات حول تحديات طرق النقد ـ التاريخي للعقل الإسلامي (1). وهذه الدراسة المطوّلة تحتوي الخطوط العريضة لكتابه الذي مازالت الأوساط الأكاديمية تنتظره بلهفة، خصوصا بعد الزوبعة الإعلامية التي أثارها السيد كاليش في الإعلام قبل عدة أشهر. حينها صرح لإحدى الصحف الشهيرة قائلا: من الناحية العلمية لاتوجد إثباتات قاطعة على وجود النبي محمد؟ ويصعب الطعن بتاريخيته وبنفس الوقت لايمكن إثباتها؟ بكل الأحوال فإنه ( أي النبي) لم يعش كما ورد في القرآن والحديث وكما تم توصيفه في الموروث" (إنتهى) في ذلك الوقت نشرت الجزيرة نت (2) تقريرا حاول طمس جملة من الحقائق: أهمها تجريد السيد كاليش من إسمه الأول "محمد" ووصفه " بمستشرق ألماني وأستاذ إسلاميات في جامعة مونستر " دون الإشارة إلى أن محمد كاليش هو حامل دكتوراة عام 1997م على أطروحته (العقلانية والمرونة في مبادئ القانون الإسلامي)، وأنه ألماني إعتنق الإسلام في سن الخامسة عشرة من عمره، وفق المذهب الزيدي، القريب من الشيعة الإمامية ومازال متمسكا بإنتمائه لفضاء الإسلام، رغم هيجان الجالية الإسلامية في ألمانيا، ومطالبتها بعزله من منصب الإشراف على مركز تأهيل مدرسيّ الدين الإسلامي، لكنه وقف بصلابة متمسكا بحقه في البحث العلمي.
ونظرا لطول الدراسة وجدت أن أقدم هذه الترجمة التي تطل على أهم محاورها كمساهمة متواضعة في هذا الجدل الكبير، الذي يجتاح الحلقات العلمية ومراكز البحوث في جامعات الغرب (ألمانيا خصوصا) والذي ينبئ بأن صفحة الإستشراق الكلاسيكي قد انطوت ولم تعد تروي عطش البحث، وكشف النقاب عن بدايات الأديان. وإذ تنقشع الغيوم الداكنة وتتبدد بإستخدام طرق المعرفة الحديثة المعززة بجديد اللقى الأركيولوجية وعلم المخطوطات والمسكوكات واللغات والأديان المقارن، وإذ يشقى ذوو العقل في النعيم فإن أخا الجهالة مازال في الشقاوة ينعم ؟؟ مطمئنا لتاريخه المجيد، وفحولة قعقاعه ومنشغلا بفتاوى تحريم إهداء الزهورللمرضى..وكتاب عائض القرني لاتحزن وإعجازات زغلول. ومع الغياب والصمت المؤسف لمؤسساتنا الثقافية وإنشغال مدرائها (بأربطة عنقهم) وإنشغال القادة والملوك (بتعلم العربية الفصحى وعدّ الألف مليون دوووولار المخصصة لإعمار غزة) أجد الوقت الكافي والجلد السميك لتعقب هذا الكاليش وسماع وجهة نظره:
يقول الكاتب في تقديمه للدراسة:
لوقت قريب كنت على قناعة ثابتة بأن محمد شخصية تاريخية وكنت أنطلق من أن الموروث الإسلامي وإن كان غير جدير بالثقة، بخصوص محمد، فقد تضمن في خطوطه العامة الحقيقة لسيرته التاريخية، وهذا أمر لم أشكك به، بيد أني تراجعت عن هذا الموقف وسوف أنشر كتابا يشرح وجهة نظري بدقة .. هذه الجملة تختصر رأيي وتذهب لطرح السؤال عن لوازم النقد التاريخي التي يحتاجها اللاهوت (الدين) الإسلامي وكيف له أن يتعامل مع البحث..وبالنسبة لتاريخية محمد لايوجد لدي ما أخبر عنه، وألتزم بموقفي الداعم للخلاصات الثابتة التي وصل لها البحث العلمي الحالي والتي تبدو مجازفة (مغامرة) كونها تصدر عن مسلم . لكن على المرء مراعاة الحقائق المعروفة ويجب أن يصل إلى تشكيك بوجوده، هذا ماتظهره بيوغرافيا محمد (سيرته) التي أصدرها قبل وقت قريب هانس جانسن (3) والتي تظهر بجلاء كيف أن الموروث الإسلامي فاقد للمصداقية. جانسن ينطلق من تكذيب تاريخية محمد لكنه يضيف الملاحظة التالية: بعكس ما يفكر به كثير من المسلمين فإن معظم باحثي الغرب يرفضون تلك الفرضيات (التي تؤكد التاريخية) بسبب إحترامهم للإسلام. أو خشيتهم من ردود فعل أصدقائهم المسلمين، أو لإعتقادهم بأنهم أمام مجازفات مجنونة (إنتهى)
هنا يعلق كاليش قائلا: إذا كان الباحث يظن أن فرضيته محض جنون فعليه أن يكون صريحا ويعلن قناعته العلمية، وهذا لا إعتراض عليه، فمن خلال تبادل الآراء فقط يمكن تقدم العلوم. أما الفكرتان الأخريتان فهما فضيحة. فكلمة "إحترام" تبدو رائعة لكنها في هذا المقام غير مناسبة لأنها تتضمن مفعولا عكسيا. ومن لا يشجع المسلمين على الجدل مع الحقائق، فإنه يضعهم في مرتبة أطفال لم يبلغوا الحلم ، وكمن لا يريد أن يسلبهم بابا نويل أو شكولاته العيد. إن كل من ينطلق من أفكار المساواة بين البشر عليه أن يثق بكفاءة ذكائهم، فالإحترام الحقيقي للمسلمين يجب أن ينطلق من إمتلاك القوة لوضعهم على أسس علومنا الحديثة ليتمكنوا من الجدل والنقاش حول دينهم .. فقط جماعة الإسلاموفوبيا تظن أن المسلمين برابرة، الطيبون منهم ينظرون لهم كحيوانات نبيلة؟ والفرق لا شيئ. وكأن المسلمين يختلفون عن باقي المعمورة.. إما أن يوضعوا في حديقة حيوانات للمداعبة أو في أقفاص الوحوش المفترسة وبكل الأحوال في حديقة حيوانات. أما فكرته الأخيرة فأكثر بؤسا، والإجابة عليها بكلمة واحدة: الحرية، فالأصولية الدينية (لاتخص المسلمين وحدهم) ولاسبيل إلا بحرية الفكر .. هذه القضية لا تقبل مساومة وبعكسه فإننا نحوّل السكة بإتجاه القهقرى إلى القرون الوسطى ويمكن أن يحدث هذا بسرعة أكبر مما يتصورها الكثير.
إن موقفي من سؤال إثبات وجود محمد أو نفي وجوده أمر غير قابل للبرهنة، لكني أميل إلى أن نفي تاريخيتيه ممكن، وإن كنت أشكك بذلك فإنطباعي هو: إن لم تحصل مفاجأة مدهشة ونعثر على "قمران، أو نجا حمادي" إسلامي فإن هذا السؤال لن يطوى ولن يُستطاع توضيحه.
ويضيف كاليش: هنا لا أتفق بالجملة مع آراء كارل هاينس اوليغ وفولكر بوب لكني أعتقد أن منهجهما مثمر جدا. (4) فهما يناديان بتقييم الوثائق الأركيولوجية (الغير إسلامية) المتزامنة مع نشوء الإسلام بعيدا عن تأويلات المؤرخ الإسلامي، ويجب أخذ تلك الوثائق كمصادر مستقلة، وبهذا فهما يعملان بالضبط ما فعله قبل بضعة عقود باحثو أركيولوجيا الكتاب المقدس (التوراة)، فهناك تم أيضا أخذ الحقائق (اللقى) الأركيولوجية كمصدر مستقل، وقد أدى التضارب وعدم الإتفاق بينها (الوثائق) وبين مادة الكتاب المقدس إلى ظهور باحثين يسموّن: جماعة الحد الأدنى Biblical Minimalism من أمثال توماس تومسون ونيلز ليمش وفيليب ديفيدز وكيث وايتلام، وتعاملوا مع البحث التوارتي بإحترام ولياقة تفوق تعامل اوليغ وبوب مع علوم الإسلاميات. ويرى جماعة الحد الأدنى أن التوراة عبارة عن وهم (شبح) تيولوجي، مع نذر يسير وغير مهم وبالأحرى بدون أساس تاريخي. خصوصا في فترة الآباء البطاركة، موسى، الخروج، القضاة، داوود، سليمان، وحتى السبي البابلي. فكلها فُهمت في سياق الأساطير. مع أن كثيرا من باحثي التوراة لايتفقون معهم تماما، بل يقتربون منهم كأمثال إسرائيل فنكلشتاين ونيل سلبرمان (5) مع مراعاة أن شروط البحث الأركيولوجي التوراتي أفضل من مثيلها في الأسلام المبكر، بسبب تاريخه الأطول وكثافة اللقى الأثرية، بينما تكمن المشكلة في حظر التنقيب الأركيولوجي في المناطق الإسلامية المهمة، وعلاوة على ذلك يجب مبدئيا القول بأن اوليغ وبوب قد جازفا وسلكا طرقا جديدة، وإستطاعا بنظريتهم الممنهجة حول نشوء الإسلام إثارة النقاش. وهذه النظرية التي تبدو لي في كثير من نقاطها مجازفة، وقد يتهاوى بعضها، إضافة إلى أن إعادة بناء تصوراتهم التاريخية وفق لقى المسكوكات والنقوش في الإسلام المبكر، تتضمن إشكاليات كبيرة، فهذه الطريقة والمواد المتوفرة تبدو مناسبة أكثر، لإثبات أن إعادة بناء الأحداث التاريخية الحقيقة غير مضمون.
لكن هذه النظريات تخلق وعيا تجاه كثير من المسائل البحثية المفتوحة.. إن اوليغ وبوب قاما بتأويل جديد لتاريخ الإسلام المبكر، ووضعاه أمام المجتمع العلمي، وبهذا يمكن تفحص نظريتهم ونقاشها، فالعلم يعمل وفق هذه الطريقة. ولكي يتقدم مسار البحث، يتوجب المخاطرة وطرح تأويلات حديثة.. وتحمل بعض الغمزات الساخرة. فالمستقبل هو الكفيل بإثبات صحة أو خطأ نظريتهم وما ذهبا إليه. ويضيف كاليش: أعتقد أن نظرية اوليغ ـبوب ونهجهما قد أضعف الثقة بمصداقية الموروث الإسلامي، وإن قوبلت خلاصاتهما وبعض التفاصيل بالريبة والشك، فعلى المرء أن يسجل ما أظهراه من تضارب بين التاريخ الإسلامي وبين المصادر الغير الإسلامية، والحقائق الأركيولوجية، وهذا يزيد القناعة بأن التاريخ الإسلامي هو تاريخ خلاصي، مع نذر يسير من المحتوى التاريخي. كذلك فإن المرء لن يجادل بعدها بأن الإسلام قد صوحب بفترة نشوء طويلة (يقصد أطول من المدة المعروفة)، وأن المسيحية قد لعبت دورا مهما في نشوئه. لكن كيف سيتطور إعادة بناء التصورات حول الأحداث الحقيقية؟ هذا سؤال آخر، مع إعتقادي بأن كثير من التفاصيل والنتائج التي أتى بها اوليغ ـ بوب قد أسقطت بعقلية المجازفة والمراهنة. هذا لايعني أنهما أخطأا فربما أصابا كبد الحقيقة، وأنا أقترب بهذه النتيجة منهما.
إن ملاحظة المصادر الغنوصية الإسلامية المبكرة ( الغنوصية تعني المعرفة، ووردت في السياق الإسلامي بمعني أهل العرفان) تمنحني إحتمالا كبيرا، بأن الإسلام هو نتاج لغنوصية مسيحية، أو غنوصية يهو ـ مسيحية ، والإسلام يعتبر نفسه إستمرارا وإتماما لدراما الخلاص اليهو ـ مسيحي، عليه يتوجب علينا إستدراج الآليات المتشابهة لنشوئه، كما في تاريخ نشوء اليهودية والمسيحية. أما النقاط الجوهرية التي تدفعني للتشكيك بتاريخية محمد:
لماذا الشك بوجود محمد؟
علينا أن نضع نصب أعيننا بأننا لا نملك وثائق إسلامية أصلية من القرنين الأولين، وعندما نجد وثيقة أصلية من ذلك الزمن علينا الحذر. فمجرد الزعم بوجود وثيقة تنتمي لذينك القرنين لايعني شيئا. لأنه مجرد زعم، وقد تكون الوثيقة منحولة ..فالمصادر الموثوقة تبدأ مع القرن الثالث الهجري. وإذا كان لدينا مصدر لموعظة (خطبة) عن حرية الإرادة منسوبة إلى إبي الحسن البصري (توفي 110هـ) أو موعظة دينية منسوبة لزيد بين علي حفيد النبي (توفي122 هـ) عندها يعرف المرء بجلاء أن تلك النصوص لاتتمتع بموثوقية تاريخية، ولا يوجد ما يؤكد بأن تلك المصادر تعود إلى من نسبت إليهم، إذ لا توجد طريقة توثيق مبرهنة تثبت مرجعية كتّاب تلك المصادر. ولن توجد بضوء مالدينا من مصادر حالية.. ففي بعض كتابات زيد بن علي التي نقلتها سلسلة المحدثين (طريق) يمكن أنها تعرضت لتزوير متأخر .. وهنا لانحتاج لنقاش طويل. لذا فإن إمتحان أصالة المصادر المبكرة للإسلام، لا تحتمل إلا طريقا واحدا، وهو مقارنة تلك النصوص مع المعلومات المعروفة للتاريخ المبكر وإخضاعها للتخمين الإحتمالي لمعرفة من يمكن أن يكون قد صاغها. وهنا تبدو الورطة واضحة لأن تلك المعلومات حول الفضاء التاريخي، تمت صياغتها بيد المؤرخ الإسلامي نفسه. أي أن المرء سوف يتحرك ضمن مساحة يمليها عليه التاريخ الإسلامي، والسؤال المثير: لأي مدى لم تكن كتابة التاريخ فبركة وتركيبا لاهوتيا ومحض خيال؟ إذا أخضع المرء نصوص القرن الأول والثاني الهجري لهذا المقياس، فإن المقارنة ستصبح مقارنة مزوّرات ببعضها وأوهام ببعضها، والحصيلة لاشيئ.
من الجلي الواضح ندرة الأدب الكتابي في القرنين الأول والثاني الهجريين،حيث ملئت بنتاج أدبي لمصادر متأخرة، ونعلم بوضوح أن العرب لم يلمّوا بالعربية فقط بل بالفارسية الوسطى واليونانية واللاتينية، فالموروث يخبرنا أن محمدا أرسل مكاتيبا باللغة العربية إلى حكام ذلك الوقت (هرقل مثلا) يطالبهم بإعتناق الإسلام.
إذا كان العرب حقيقة يدعون لدين عالمي منذ القرن الأول الهجري، فأين وثائق الدعوة للإسلام التي يتوجب أن تكون بلغات عديدة ؟ فإبلاغ دعوة جديدة في المحيط تتطلب ليس العربية فقط بل الفارسية واليونانية واللاتينية !! لماذا لم يبق تراث وأدب مكتوب من تلك الحقبة؟ ثم يتساءل الكاتب:
أين بقيت وثائق الغنوصية للإسلام المبكر (الغلاة وأهل البدع)؟ ثم يعطي الكاتب مثالا تصويريا للمشاكل داخل المصادر الإسلامية: عند الشيعة القديمة تخبرنا المصادر بأهمية ودور الحلقة (الدينية) التي لاتزال ليومنا عند الشيعة الإثني عشرية تضم نخبة الفقهاء القدماء للشيعة الإمامية ومنهم على سبيل المثال هشام بن الحكم (قرن2هـ) وهشام بن سالم الجوالقي (قرن2 هـ) ويفترض أنهم ينتمون للحلقات الدراسية التابعة للأئمة، ويعملون في التدوين الكتابي، حيث يعلمنا إبن النديم (توفي 385 هـ) بعناوين كتبهم التي يفترض أن بعضها كان موجودا أيامه، لكن ما نعرفه أن أفكارهم الفقهية تبتعد كليا عما نعرفه عن الشيعة الأثني عشرية، لذا علينا ألا نتعجب لإختفاء كتبهم، رغم أنها كنز ثمين للشيعة.. التفسير الوحيد لإختفائها كونها أصبحت غير مفيدة للإستخدام، فإبن النديم يخبرنا أن هشام ابن الحكم ألف كتابا عنوانه "الرد على هشام الجواليقي" وكتاب آخر بإسم "الرد على شيطان الطاق".. هذه الكتب لم تعد تناسب الشيعة المتأخرة ، فهؤلاء الثلاثة يفترض أنهم تلامذة الأمام المعصوم ، وحسب المنطق الإمامي ليس بوسعهم نشر فتاوى وأقوال دون إستشارة الإمام، خصوصا في القضايا المهمة لأصول الدين. لهذا إنتفت الحاجة لإعادة نسخ تواليفهم.
ونفس عدم الإكتراث نجده في المصادر المبكرة للمعتزلة، فأبو القاسم البلخي (توفي 319هـ) والقاضي عبدالجبار (توفي 415هـ) والحكيم الجشامي (توفي494هـ) وابن المرتضى (توفي840هـ) كتبوا حول طبقات المعتزلة لشرح عقيدتها وربطها بسلسلة إسناد تبدأ بواصل ابن عطاء عن هاشم بن عبالله بن محمد بن الحنفية عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب، ومع أن أعقابهم من الزيدية والإثني عشرية كان بإستطاعتهم حفظ تلك المؤلفات لكنهم لم يفعلوا ذلك، مع أن النظّام والجاحظ (توفي255هـ) كانا قريبين منهم، لهذا فإن توصيف المعتزلة في مصنفات البدع (للأشعري والشهرستاني) جعلهم أكثر محافظة، وجعلت القاضي عبدالجبار لايستشعر المواقف الكونية والأنطولوجية للنظّام، التي تقف بالتضاد مع الأثني عشرية في مسائل جوهرية (التوحيد العدل الوعد والوعيد) عليه فإن معارفنا عن قدماء المعتزلة أتت من مصادر معتزلية متأخرة، حيث تبدو حركة المعتزلة القديمة عبارة عن بناء لاهوتي (بمعنى مفبرك) شيدته المعتزلة المتأخرة، ليصبح واقعة وحقيقة تاريخية؟؟ إذا نظر المرء إلى الأشخاص الفاعلين في تاريخ نشوء المعتزلة، يجد بإستثاء مؤسسيّها (واصل بن عطاء وعمر بن عبيد) أسماء الأشخاص المهمين في تاريخ الكيسانية، وهي تيار مبكر للشيعة، لا ينسجم فكريا مع المعتزلة، وهذا يحمل تناقضا واضحا.. ليس فقط إسم المعتزلة لغزا بل كامل حقبة نشوئها.. هذا ما لاحظه فان إس (6)
وما يمكن التحقق منه أن المصادر الإسلامية تدعي بوجود تراث كتابي قيّم يعود القرنيين الهجريين الأول، والمسلمون كانوا حينها سادة ولم يكونوا أقلية مضطهدة، وليس صعبا أن يخطر ببالهم حفظ ذلك التراث الكتابي.. لكن الحقيقة أنه غير موجود في أيامنا، وعليه نستنتج خلاصتين إثنتين: إما أن ذلك التراث الكتابي ليس له وجود أساسا، أي أنه شبح أنتجه المؤرخ الإسلامي المتأخر. أو أن المسلمين اللاحقين لم يهتموا لحفظه، وفقدان ذلك الإهتمام أمر يمكن توضحيه بفقدان أهميته بالنسبة للفقهاء المتأخرين، وفقدان أهميته يعني أن معلومات ذلك التراث الكتابي لم تعد تتناسب مع التصوّرات اللاحقة. وبهذا لا يتوجب حفظه.
فان إس يشير بحق إلى نقطة توضح موقفه من موثوقية الإخباريين في التراث الكتابي الإسلامي: الجرح والتعديل فيقول: إن التكرار المستمر وترديد نفس المواد (الكتب) يُغري (يُوهم) بالإعتقاد أنها شهادة دامغة، وعلى المرء ألا ينسى أنها وأثناء المسار الزمني، دائما وغالبا ما تقف المعلومات "الموضوعية" المؤثرة على أرضية ضيقة ضحلة. (المقصود أن المعلومات التي يجري ترديدها وعلكها بشكل متواتر تملك نصيبا قليلا من الحقيقة؟ والعلم عند فان إس)
ثم يضيف كاليش: أنا شخصيا أنتمي للشيعة الزيدية وأعرف سلسلة النسب لأئمة الزيدية والتي ترجع إلى الحسن والحسين، وكنت أعتقد أن نسبها لدوحة النبي عبر الحسن والحسين قابل للبرهان ويحتوي على جوهر تاريخي، ولايمكن أن يكون مبنى شعريا، وبرغم الكثير من الحكايا والأسطرة، لابد من وجود محتوى تاريخي، لكن عليّ أن أعترف اليوم، بأن حالتي كانت مثالا للعمى الديني. ولو نظرنا إلى الموروث بدقة فإن أولى الكتابات التي تعود لأحد العليين (أو العلويين) بموثوقية. وهو الإمام القاسم ابن إبراهيم الراسي (توفي246هـ) تلفت النظر إلى أنها صمتت عن تناول تاريخ عائلته ولم تخبر الكثير، لذا فإن معرفتنا بتاريخ العليين يعتمد بالحقيقة على بعض المصادر القليلة من القرن الثالث الهجري وما بعده. وهكذا فإن الأمام الزيدي المنصور بالله عبدالله ابن حمزة (توفي 614هـ) والذي وجب عليه أن يحفظ نسبه أبا عن جد إستند جوهريا في تاريخه "الشافي" على "مقتل الطالبيين" لأبي الفرج الأصفهاني (توفي 356هـ) وعلى قليل من من النصوص المعروفة، أي أنه لم يضف من عندياته شيئا أكثر من وصف وقائع معروفة أو تبدو له أنها حقيقة. ولو أمعنا النظر فإننا أمام معلومات أساسية قليلة من مصادر رئيسية قليلة، وعليها تم إنشاء عمارة من الشروح التاريخية (عملية إنشائية) يلحظها المرء في كل مكان. فالإمام المذكور أبو القاسم الراسي لم يدر حينها أن سلسلة نسبه وسلسلة عنعنته (الأحاديث) يتوجب أن تعود إلى عليّ ومنه للنبيّ كما زعمت الزيدية لاحقا. كذلك الأمر مع حفيده الهادي للحق يحي ابن الحسين ابن القاسم فإنه لم يعرف ذلك.
وهكذا يأتي كاليش إلى فكرة "نظرية المؤامرة" فبعض النقاد يقولون بأن المؤامرة يمكن أن تكون ضرورية لإعادة تركيب وبناء مادة الموروث الإسلامي يقول: إننا نتحدث عن زمن لم تتوفر فيه الميديا والإنترنت والتعليم الإلزامي والصورة العلمية الحديثة للعالم ، فالمصادر التي تبرهن على التفاصيل قليلة العدد..وزمن القرنيين المظلمين من تاريخ الإسلام المبكر يمكن أن يكون كافيا لنشر عقيدة جديدة وإختلاق شخصية مؤسسها، وبمرور الزمن يمكن إخفاء المواد المخالفة. يمكن نسيانها إتلافها، أو إعادة كتابتها بضوء مستجدات الموقف الديني (التيولوجي).. هذه العملية كافية تماما بدون مؤامرة. تكفي إذا إستطاعت أفكار تيولوجية معينة أن تفرض نفسها ببطء وتطمس العناصر القديمة، كما رأينا في مثالي الشيعة المبكرة والمعتزلة وتراثهم الكتابي. وإذا أضيفت حماية السلطة السياسية، فإن عملية التغيير تصبح أكثر سهولة.
أما بالنسبة للعليين، عائلة النبيّ (آل البيت آل محمد) فيمكن بسهولة تصوّر صيرورة نشوئهم بدون محمد. ففي أحد السجالات التي إندلعت في اليمن في القرن السادس هـ أشار الفقيه الزيدي نشوان سعيد الحميري، بأن مصطلح "آل البيت" الذي تفهمه زيدية اليمن نسبا بالدم لعليّ ومحمد، وبالتالي شرطا للإمامة، هو تعبير عن أنصار (أتباع) محمد، ومع ذلك لم ينكر الحميري وجود أسلاف ينتمون جسديا وروحيا للنبي، أسسوا عائلته.. فمن الممكن جدا، خلال القرنين المظلمين لبدايات الإسلام، أن جماعة "آل محمد" لم يكونوا أصلا أتباع محمد تاريخي بل محمد ميثولوجي، جرى تغير دلالته أثناء تشكّل ميثوس محمد، ثم عقده بصلة قربى جسدية، أصبحت شجرة نسبهم الحقيقية من نقطة محددة، وبخطوات قليلة تتصل بمؤسس الدين المُفترض.
هكذا ببساطة نشأت التفرعات البعيدة لشجرة النسب الحسني ـ الحسيني، وهي بالتأكيد دقيقة إلى نقطة بعينها، لكنها إعتبارا من نقطة محددة تقترن بشجرة نسب متخيّلة (شعرية) والملفت في الأمر أن الفاطميين العليين هم من إهتم بشجرة نسب دقيقة، بينما أهملها باقي العليين والطالبيين. وهذا منطقي بسبب عدم أهميتهم للفقه الشيعي ولأنهم من الناحية الدينية ضد إحتكار "العائلة المقدسة" في نسل عليّ وفاطمة؟ (يكفي إلقاء نظرة في كتاب: أمة الطالب في أنساب أبي طالب لإبن عنابه)
والملاحظة المهمة في الموروث الإسلامي، أن المسلمين أكدوا دائما وجود بحر من الموروث النبوي جمعه الإخباريون في مصنفاتهم، والموروث نفسه يتكلم عن جبال من المزوّرات، وحتى المصنفات (الصحاح) مليئة بالتناقضات، ومنتقدة بعنف ليس من الغربيين فقط بل من المسلمين أنفسهم. سواء من جماعة أهل الرأي أو المعتزلة في الماضي أو من نقاد معاصرين أمثال سيد أحمد خان ومحمود أبو راية ( ومن عندي أضيف جمال البنا والقرآنيين) فداخل الإسلام هناك جماعات وأشخاص عرفوا أن موروث الحديث غير موثوق به، وطريقة أهل الحديث وغربلتهم الغث من السمين لم تكن ذات فعالية. ويرون أن القرآن هو المرسى الأمين، وهنا تكمن المعضلة:
فحالما تتهاو الثقة بالموروث الإسلامي، تتهاو كل نقاط الإرتكاز للموروث التاريخي القرآني ويفقد القرآن نسبته لمحمد التي ينفرد الموروث بتأكيدها، وعندما لا يكون للنبي وجود، ينتفي نسبته إليه. ومن المعقول أن يكون القرآن قد نشأ مبكرا، وعليه تم نسج السيرة النبوية، كما يُنسج "المدراش" حول أحد النصوص، وربما تكون أجزاء من القرأن قد نشأت بموازاة السيرة كسورة 33 أية 40 التي وصفت محمدا بخاتم النبيين. والتي تشير بدلالة واضحة إلى أن أوائل المسلمين لم يملكوا حينها وعيا رساليا بدين جديد.
من الصعب الرجوع إلى محمد تاريخي محتمل، بل إلى إيمان تيولوجي أنتجته مراحل صيرورة متأخرة، وهنا تظل كثير من الأسئلة معلقة.
إذا عرف المرء أية طاقة هائلة وفانتازيا دينية، جعلت من النبي أرضية مشروع أسقطت عليه كل الرؤى التيولوجية والقانونية، فكيف له أن يثق بأن أرضية ذلك المشروع ليست نتاجا لفانتازيا دينية؟ كلّ فرقة نسبت فقهها وتشريعها للنبي والشخصيات المؤثرة الأخرى، التي آمنت بها. في نصوص معينة كما في "كتاب الحجة في أصول الكافي" يُعرف ذلك من النظرة الأولى وكل باحث في النقد ـ التاريخي للموروث الإسلامي يعرف بسرعة أنه أمام آراء تيولوجية وقانونية مُسقطة على سلطة مبكرة (المقصود النبي والخلفاء إلخ) ، وفوق ذلك فإننا أمام نفس حلقة الإخباريين، التي أبلغتنا بعبث فاضح، والتي أورثتنا بمدونات ينسج عليها المسلمون وغير المسلمين سيرة محمد؟ من يقول لنا أن الهجرة ليست مُختلقة كما أختلقت أسطورة إنشطار القمر؟
إن الإسلام يقع ضمن تقاليد العهد القديم والجديد، لذا علينا بجدية أن نستخلص العبرة، فصياغة النصوص الإسلامية تمت بآلية مشابهة، تقوم على التركيب (البناء) الأسطوري (الميثولوجي)
وإن صيرورة الدين بدون شخصية مؤسسة أمر طبيعي، فحسب رأيي فإن المسيحية تطوّرت بدون يسوع تاريخي، رغم أن أتباع هذه النظرية لايزالون أقلية (آراء الأقلية لا تعني أنها خاطئة) وأعتقد أن رؤيتهم مقنعة (ولن أسهب بالحديث عن تاريخ المسيحية المبكرة لضيق المساحة، مع أني أرى متوازيات مهمة مع الإسلام المبكر)
وهنا أتفق مع اللاهوتي راشكا، بأن المسيحية في الأصل هي غنوصية.. ويسوع هو شخصية ميثولوجية للمخلص، إختلقها الغنوصيون، لتمثيل عقيديتهم صوريا والدعوة لها، وأيضا في الإسلام يمكن أن تكون شخصية محمد تحويرا غنوصيا لشخصية يسوع أنشأته الغنوصية المسيحية العربية أو اليهو ـ مسيحية
ثم يضرب كاليش مثلا: إلى جانب المسيحية هناك دين كبير آخر بدون مؤسس له، إنتشر بسرعة وإمتد. أقصد طقوس ميثرا الرومانية، والتي يعرف آباء الكنيسة شبهها المحيّر مع المسيحية؟ لا يوجد من يزعم بوجود ميثرا تاريخي، رغم ذلك إمتدت هذه الديانة في أرجاء الأمبراطورية الرومانية وأصبحت ندا للمسيحية.. فإنتشار ديانة ما يحكمها وجود فكرة دينية مع وبدون مؤسس يقف خلفها.
وإذ يُخفي الموروث الإسلامي مشاكل جمة، تمخض عنها إعتقاد بأن التراث الكتابي يمثل إختلاقا تيولوجيا كاملا وليس مجرد أساطير وحكايا تم تخصيبها في محتوى تاريخي تدعمه الوثائق الأركيولوجية الغير إسلامية. لهذا فإن النتيجة الحاسمة هي عدم وجود محمد، لكن وجوده يظل محتملا من حيث المبدأ، إنما بصورة أخرى، لا علاقة لها بمحمد الموروث الإسلامي.. فباتريسيا كرونا ومارتين هايندز في كتابهما "God`s Caliph" وصلا إلى القناعة التالية:
It is striking fact that such documentary evidence as survives from the Sufyanid period makes no mention of the messenger of God at all. The papyri do not refer to him: The Arabic inscriptions of the Arab – Sasanian coins invoke Allah, not his rasul, and the Arab- Byzantine bronze coins on which Muhammad appears as rasul Allah; previously dated to the sufianid period have now been placed in that of Marwanids. Even the two surviving pre- Marwanid tombstones fail to mention the rasul though both mention Allah, and the same is true of Muawiya`s inscription at at Taif: In the Sufianid period apparently the Prophet had no publicly acknowledged role.
ومن المثير للإنباه أن المسلمين أستغرقوا زمنا طويلا حتى سكّوا على عملتهم أو نقوشهم صيغة" محمد رسول الله" فعلى نقش من كربلاء مورخ 64هـ نقرأ صيغة: رب جبريل وميكايل واسرافيل. ويوجد نقوش عربية عديدة بصيغ أخرى من قبيل: إله موسى وإبراهيم أو رب موسى أو رب عيسى وموسى. وأقدم صيغة تذكر "محمد رسول الله" مؤرخة عام 66هـ بعدها أصبحت مستخدمة بإستمرار ، وهناك مسكوكات قديمة ذكرت كلمة "محمد" منفردة. وفي فلسطين عُثر على مسكوكات يعتقد أنها ضربت في عمان، على إحدى جهتيها يُقرأ كلمة "محمد"، وعلى الوجه الآخر نرى رجلا يحمل صليبا بيده، وفي زمن عبدالملك بن مروان وجد مسكوكات بصيغة "محمد رسول الله" مصوّر عليها بنفس الوقت سمكة، وهي تمثل رمزا مسيحيا مألوفا. وهنالك قطع رصاصية من زمن عبدالملك بن مروان نُقش عليها عبارة "فلسطين" وحرف ألفا، وعلى الإطار ما يمكن تأويله بالحرف أوميغا، وهذان الحرفان معا قد يُرمز بهما للمسيح، بينما كان المرء ينتظر من حاكم مسلم أن يكتب مكة أو المدينة أو القدس. إذ لا معنى لكلمة "فلسطين" في ذلك السياق الزمني، لأننا لسنا زمن الحروب الصليبية أو في القرن العشرين.حتى تكتسب فلسطين بعدا رمزيا (يبدو أن القضية الفلسطينية شاغلتنا منذ عبدالملك) فلسطين لا تعني لعبدالملك إلا رمزا دينيا، وهذا لا معنى له إلا في سياق يهو ـ مسيحي.
من الطبيعي ان عدم ذكر النبي يمكن توضحيه بطرق شتى وليس دليلا على عدم وجوده التاريخي، لكن ذلك يثير الدهشة حقا، ويرمي في حال وجوده تساؤلا عن أهميته للجماعة الإسلامية المبكرة، ففي الموروث الإسلامي كأصول الفقه وأدب ومناهج الحديث، يعثر المرء على خطوط متوازية واضحة للعيان تعكس تصورات الإسلام المبكر عن محمد، وكونه ليس الأنموذج الحاسم والوحيد للمؤمنين، فلفظ "السنّة" لم يكن مقتصرا على النبي وحده (أصول السرخسي) فهو يمثل أيضا إجماعا (إتفاقا) عموميا أو محليا، ولو كان محمد موجودا، فلابد أن أهميته للمسلمين الأول كانت أقل من تلك التي نسبت إليه لاحقا، وهذا يعني أن إسلام ذلك الوقت (حال وجوده) يختلف كليا عما نعرفه عن إسلام القرن الثالث هـ .
إن مسكوكات ونقوش الفترة الأموية المبكرة لا تناسب إسلام القرن الثالث هـ ، معاوية مثلا ترك نقشا باللغة اليونانية يتقدمه صليب، وعلى العملات ظهر الصليب أيضا، وفي كرونولوجية مسيحية أخبر عن صلاة معاوية في جبل الجلجلة (في أحد الأعياد المسيحية)، لاشيئ يوحي بأنه كان مسلما، وفي هذا المقام لن نسوق آراء الشيعة التي زعمت أنه كان منافقا أو مؤمنا، فكتب التاريخ الإسلامي أكدت أنه قدّم نفسه كمسلم وإستطاع أن يسوّق نفسه، وقصته مع رفع المصاحف على الرماح في صفين جعلته دهقنا للدعاية، والتظاهر بالتديّن. لكن هذا المعاوية وبصورة جليّة، تنازل بمسكوكاته ونقوشه، عن تقديم أي دليل على إنتمائه للجماعة الإسلامية.
أما في شمال أفريقيا فقد ترك موسى بن نصير إسمه يُنقش على العملة بحروف لاتينية Mvse filius Nvsir، في حين غاب إسم محمد عن العملة حتى عام 97هـ، واستمرت السلطة الإسلامية تضرب العملة بالحروف اللاتينية، وأحيانا مع صور الآلهة المحلية مثل "بعل". إن كل المظاهر الرسمية للأمويين المبكرين تدل على أنهم تماهوا تماما مع رعاياهم، وإستخدموا الرموز الدينية للمسيحية وكتبوا باليونانية واللاتينية والفارسية البهلوية إلى جانب العربية، وبنفس الوقت كانوا حريصين على التغاضي وإهمال ما يُميّز أنهم أتباع لدين جديد. وهذا لاينسجم كليا مع تأكيد الشريعة الإسلامية عن ضرورات وضع حدود بين المسلمين وبين الآخرين، وصولا إلى تمييزهم بالملابس. مع أن تأكيد هذه (الحدود) يمكن تأوليها كرد فعل بسيكولوجي على لحمتهم القديمة (مع محيطهم). وهذا لايتناسب مع التصورات، التي تخبرنا بها المصادر الإسلامية عن ديانة عالمية لوعظ جميع الناس في العالم..
إن العملات والنقوش لاتتطابق مع الموروث الكتابي الإسلامي. فإذا كانت تلك النقوش والمسكوكات القديمة تدلّ على تسامح إسلامي، فهذا تعبير عن أن ذلك الإسلام كان متسامحا أكثر بكثير من خلفه.. لكن التسامح الديني شيئ، والتنازل عن الرموز الدالة على الدين وما نراه من زمن معاوية شيئ آخر، فإذا كان المسلمون الأوائل غير مكترثين لهذه المسائل، فلماذا غيّروا موقفهم من نفس المسائل فيما بعد. إن عدم الإكتراث لايمكن أن يكون مع سك العملة، لأن الحكام دوما قد نقشوا أسماءهم عليها ليخبروا العالم بأنفسهم، وبمن يمتلك الكلمة في أرضه.
إن إطلالة على الوثائق القديمة تثبت أن العرب عوملوا كحكام تماهوا مع محيطهم ، وليس كواعظين برسالة عالمية، فالمسيحيون إستمروا بسجالاتهم الدوغمائية البينية ولم يساجلوا عقيدة العرب، والإنطباع السائد أن العرب لم يملكوا حينها دينا جديدا لنشره، ويمكن للمرء الإعتقاد بعدم وجود الإسلام في ذلك الزمن الأموي. والمصادر الإسلامية تؤكد أن إنتشار الإسلام كان ضمن علاقات قبلية، وهذا يجافي فكرة رسالة العالمية للدين لجديد، حيث كان التحوّل للإسلام يعني "العربنة".
العرب لم يُدركوا حينها أنهم حملة دين عالمي، وهذا يترك تساؤلات حول تاريخ الخلاص، والتبشير برسالة الله الأخيرة للبشر وبخاتمة نبوّاته.. ولو أن مسلمي القرن الأول هـ حملوا همّ نشر هذه الرسالة (كما يُزعم) لشعر بذلك أصحاب العقائد الأخرى ولإنعكس ذلك على المسكوكات والنقوش وغيرها..ولو كان يوجد إسلام في ذلك الزمن، لكان يختلف كليا عما عرفناه لاحقا.
النظرة الأركيولوجية تظهر، بأن سوريا و فلسطين أنذاك لم يتعرضا لإحتلال عربي، بل لحدوث تغيير في السلطة دون إحتلال. مدينة مكة وقريش لم تكن معروفة خارج الجزيرة، مع أن المصادر أخبرت الكثير عن جزيرة العرب، وهذا يشير إلى أن نشوء الإسلام لم يكن في الحجاز، ولم يكن (الحجاز) المكان الذي إنطلقت منه موجات الفتوحات لنشر عقيدة العرب في العالم. ومعاوية حسب النظرة الأركيولوجية هو الحاكم العربي الأول، لكنه لايحمل من معاوية الموروث الإسلامي إلا إسمه. الخلفاء الأربعة موجودن فقط في التراث الديني للإسلام.. إن عالم الإسلام المبكر هو عالم إبراهيم وموسى وداوود وسليمان أو المسيح. وهو لم يُوجد خارج الموروث الديني.
تخبرنا المصادر الإسلامية بأن النبي محمد هاجر من مكة إلى المدينة عام 622م مع جماعته، وان الخليفة عمر بن الخطاب إعتمد هذا التاريخ بداية للتقويم الإسلامي، لكن أصل هذا التقويم يسمى "سنة مابعد العرب" وقد ورد في وثيقتين مسيحيتين، ويقصد به بداية الحكم العربي وهنا يحوم السؤال حول حقيقة تاريخية الهجرة.
وبسبب غياب الوثائق الأركيولوجية لإحتلال عربي في سوريا وفلسطين، وبسبب أن أصل التقويم كان عربيا، لايرتبط بالهجرة، وبسبب غياب البراهين على إنتشار دين جديد للعرب في غرب آسيا، فإن التعليل الذي قدمه بوب يبدو مقنعا:
إن عام 622م هو تاريخ سحق البيزنطيين للساسانيين (القرآن يشير إلى ذلك في سورة 30 أية 3ـ 5) ولعله يكون عام تأسيس كيان مستقل للمسيحين العرب.
لايوجد نبي ذكره القرآن مثل موسى، فالتقاليد الإسلامية تحدثت عن الشبه بينه وبين محمد (أوردته أحاديث عن لسان النبي) حياة موسى تمحورت حول الهجرة من مصر لإنقاذ أولاد إسرائيل، وهجرة محمد من مكة إلى المدينة كانت لإنقاذ جماعته المضهدين. وبموجب هذه الملاحظات ونقاط الإرتكاز للاتاريخية في الموروث الإسلامي، تحوم الشبهات بأن الهجرة قد حدثت في قصة النبي، لأن شخصيته قد صُوّرت بموجب شخصية موسى.
بعد الهجرة وبعكس موسى (الذي توفي ولم يدخل أرض الميعاد) أخذ محمد دور يوشع (الذي إحتل كنعان)، وأصبح يهود يثرب كنعانيي الإسلام.
ومن المهم التنويه إلى أن الحفريات، في المستوطنات التي زعم الموروث الإسلامي بأنها يهودية، لم يُعثر بها على أثر يدل على يهوديتها؟! وهذا يتطابق مع المصادر اليهودية، التي لم تسمع بوجود يهود في الحجاز!!
لكن يوشع في نظرة غنوصية ما هو يشوع، هكذا يراه اوريجين (من آباء الكنيسة الذين تمت هرطقتهم)، وإرتباط شخصية محمد بيسوع أنشأها الموروث الإسلامي بصورة إبنته فاطمة، التي تتماهى مع صورة مريم ( التراث الشيعي يسمي فاطمة ب "مريم الكبرى" "وأم أبيها".. وأضيف بأن الأسماء المسيحية تستخدم إسم ماري روز وهذا يذكّر بالزهراء) وخط فاطمة ـ مريم ـ إيزيس معروف للباحثين.
بعد فتح مكة عاد محمد إلى نقطة إنطلاقه الأولى، وهذا يتطابق مع النسق الدائري للميثولوجياـ حيث تتماثل نقطتا البداية والنهاية.. وهذا النسق الدائري الغنوصي يخدم تصوّرات عن عودة الروح إلى مرجعها. لأنها إنفصلت عن أصلها، ولغرض خلاصها يتوجب عليها العودة (إلى بارئها)
هذه التصورات عن العودة إلى الأصل عُرفت دائما في الغنوصية الإسلامية. وصدرالدين الشيرازي (توفي1050هـ) كتب في "المبدأ والمعاد" حول رحلة الروح: النهاية هي الرجوع إلى البداية. لذا فإن ميثوس محمد كما ورد تقديمه في السيرة النبوية يمكن أن يكون إنتاجا غنوصيا أراد تقديم ديانة بثوب ميثولوجي جديد، وهؤلاء الغنوصيون كانوا يعلمون بوضوح، أنهم ليسوا بصدد حقيقة تاريخية بل بصدد دين (تيولوجيا). فموسى والمسيح ومحمد هم صور مختلفة لبطل ميثولوجي أو إبن الله، لتجسيد موعظة روحية.
لقد بات من المُثبت أن المعلومات من خارج المصادر الإسلامية، تتحدث نقيض السيرة (النبوية)، فالسيرة نفسها غيرجديرة بالتصديق (يمكن مراجعة جانسن وكرونا) لهذا وضعت رحالي عند مسألة الغنوصية الإسلامية المبكرة ودورها. فقد أخبرنا عن وجودها مدوّنو أهل البدع، رغم أنها إختفت نهاية القرن الثالث الهجري، لقد أخبر هؤلاء (كتّاب البدع والغلاة)) عن تلك الظاهرة بإسهاب، لكنها صُوّرت كتعاليم مهرطقة منحرفة عن عقيدة النبي.
خيتومة:
أكتفي بهذا القدر من الدراسة وأترك الكاتب عند الغلاة والغنوصية الإسلامية. على أمل تقديم مطالعة حول اللقى الأركيولوجية والنقوش التي عاصرت تلك الفترة والتأويلات الجديدة لها، وبعض الرؤى المتعلقة ، وأشير إلى أن الترجمة لم تكن حرفية بل إقتصرت على نقل النص إلى فضاء لغتنا بما يلائم شحنة المعنى ودلالاته العربية، وأحيان محاولة إختصار السرد.
الهوامش:
جميع المراجع والهوامش موجودة في متن الدراسة وللإستزادة أضفت بعضها:
Islamische Theologie ohne historischen Muhammad- Anmerkungen zu den Herausforderungen der historischen Mithoden für das islamische Denken
2ـ http://www.aljazeera.net/NR/exeres/28F48ED8-1DAD-4C29-951E-22E505839DD6.htm
3ـ Hans Jansen: Mohammed
4 ـ Der frühe Islam
5ـ The Bible Uneathed
6ـ Theologie und Gesellschaft
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق